للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون وجنوده في البحر]

وفي تاريخ الأنبياء من المعجزات والدلائل ما يقنع العبد بأن كل أمر يأتيه أو يصرف عنه فإنما هو من عند الله، فبعد إبراهيم عليه السلام جاء نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، في وقت فرعون الذي قال الله عنه وعن قومه: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [الأعراف:١٤١] ، وذلك: زيادة وإمعاناً في التنكيل؛ لأن النسوة إذا نشأن بدون رجال يحمونهن، يكن في أيدي العدو إماء وخدماً، ولو كان قتّل الجميع لكان أهون، لكن كان يستحيي النساء حتى يكن خدماً عنده وعند قومه، ويقتّل الأبناء حتى لا يدافعوا عن النساء، وفي تلك اللحظات يولد موسى عليه السلام، وتخاف عليه أمه، قال الله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:٧] ، إذا خفت عليه فألقيه في البحر، ومن سيأخذه؟ {عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:٣٩] ، يا سبحان الله! هي خائفة عليه، وتعطيه لعدوه؟! قال الله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:٧] ، سبحان الله العظيم! طفل رضيع يوضع في التابوت، ويلقى في اليم!! {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:١١] ، فقصته أخته، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:٨] ، يأتيهم عدوهم إلى بيتهم وهو طفل رضيع، وفرعون يتحدى العالم ويقتّل ويذبح، والله يتحداه بطفل رضيع يتربى في حجره، فضلاً عن أن يذبحه.

!! فنشأ موسى وشب، وكان من أمره مع خصمه ما كان، فقضى عليه، وخرج خائفاً يترقب، ثم رجع إلى فرعون يدعوه إلى الله، وقال: {َأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:١٠٥] ، فقال: ألم تكن فينا وليداً، وربيناك؟ والآن جئتنا بدعوة، فماذا كانت النتيجة؟ خرج موسى عليه السلام -وهذا محل الشاهد- ببني إسرائيل، وأمره الله أن يسير حيث تسير السحابة في السماء، فإذا بالسحابة تسير به وتوقفه على شاطئ البحر، وإذا بفرعون من ورائه، فكان الموقف شديداً، وقال الذين مع موسى) إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (، البحر أمامنا، والعدو وراءنا، فأين نذهب؟ هل نطير في السماء؟ لا يوجد طيران، هل ننزل في الأرض؟ لا يوجد مغارات ولا شيء، {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، فأجابهم بسرعة بكلمة تزلزل الأرض: (كلا) ، لو توجهت إلى جبل لزلزلته، انظر إلى نطقها، ما قال: (لا) ، وما قال: (لا تخافوا) ، بل قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢] ، وهذه المعية الخاصة، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ، (تعرف إلى الله تجده تجاهك) ، قال: ((مَعِيَ رَبِّي)) ، وهذه معية النصر والتأييد، فماذا فعل ربه؟ هل أرسل ملائكة لتصد فرعون؟ لا، انظر إلى المعجزة، قال: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:٦٣] ، ماذا تفعل هذه العصا؟! ما طولها؟ وما ثقلها؟ وما تأثيرها؟ ليس فيها تيار مغناطيسي، ولا فيها أدوات زائدة، عصا يتوكأ عليها، ويهشُ بها على غنمه، ولكن لا يعلم قدرها إلا الله، فضرب البحر، {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:٦٣] يا سبحان الله! ماء لجاج تتلاطم أمواجه، ينفلق ويصير كل فرق -أي: طريق- كالطود شامخاً، وبين كل طريق حاجز، وينقسم بنو إسرائيل في تلك الطرق، ويمشون على أرض يابسة ما فيها لجة، فأرضية البحر جفت، فيمشون في قعر البحر، وفتح الله لهم منافذ ليرى بعضهم بعضاً حتى لا يخاف بعضهم على بعض، ويعرفون أن جماعتهم يمشون في نفس الطريق مثلهم، حتى خرجوا كلهم، وبهذه المناسبة نقول: الطغيان يعمي، والظلم يلهي، ففرعون طاغية، قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] ، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨] فيأتي إلى البحر، وهو يعرف البحر وطبيعته، ويجد موسى الذي كان يطلبه قد انشق له البحر، لكنه دخل ليدركه، لو أنه نظر بعقله لما دخل، لكن الله طمس بصيرته ليقضي أمراً كان مفعولاً، يا فرعون! رأيت البحر قد انفلق وهل في حياتك رأيت البحر انفلق؟! هل سمعت في التاريخ قبل هذا أن البحر انفلق؟! إنك لما رأيت آية عظمى كهذه أفلا ترعوي؟ ألا تنزجر؟ ألا تقف وتفكر؟ موسى الذي تطلبه أراك في تلك العصا الآيات الكبرى، فقد بلعت الحبال والعصي وأنت تنظر موسى يدعوك إلى الله موسى آمنت به السحرة الذين يعرفون حقيقة السحر، وهذا البحر صار طريقاً له، فهل بقدرة موسى أن يفعل ذلك؟! ألا تعلم أن هذا من عند الله؟! ولكن مادام فرعون متلبساً بطغيانه، فعماه مستمر، فخاض البحر وراء موسى، وحينما كان موسى خارجاً من الشاطئ الثاني؛ كان فرعون وقومه في وسط البحر، فهل بقي البحر كل فرق كالطود أم رجع إلى ما كان عليه؟ رجع البحر وهم في وسط ذلك الطريق، فغرقوا، قال الله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:٩٢] ، ماذا فعل فرعون وقومه بموسى؟ ما استطاعوا أن يضروه بشيء؛ لأن الله كتب لموسى النجاة.