للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القسم الثاني: الكفار]

أما القسم الثاني ففي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦] ما نتيجة عدم إيمانهم وتصديقهم؟ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:٧] ، جاء الختم على القلوب والأسماع، فلم تعد قلوبهم تعي خيراً، ولم تعد أسماعهم تصغي إلى خير: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤] .

قال: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) ، أي: لا يبصرون آيات الله الكونية، ولا يعتبرون بما وقع في الأمم السابقة، ولا يتعظون ولا يتذكرون بما في الكون من آيات الله وقدرته التي تدعو إلى الإيمان.

وفي أول الفاتحة يقول الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] ، والرب هو الموجد المصلح المدبر، وانظر إلى هذا النظام البديع المتقن في الأرض: من نبات، وحيوانات، وفي السماء: من كواكب وأفلاك تجري بحساب دقيق: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٤٠] ،إذا نظرت إليها تأملت وتفكرت: من الذي يدبرها ويسير أمرها ويحفظ نظامها؟ إنه الله.

الحيتان في البحار والأنهار تتواجد وتتكاثر، والطيور تتواجد ويتكاثر، والوحوش في الفلوات تتواجد وتتكاثر، والبشر في القرى والمدن والبوادي يتواجدون وتتكاثرون، ومن الذي يدبر ذلك كله؟! إنه الله سبحانه.

ولذا فإن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يلزم ويفحم الجاحدين لربوبيته، ألزمهم بقاعدة منطقية إلزامية، يقول سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:٣٥-٣٦] .

فالمؤمن يؤقن باليوم الآخر، وهؤلاء لا يوقنون، ونقف مع هؤلاء على سبيل النقاش فنقول لهم: أيها الخلق الذين يجحدون ربوبية الله! أخبرونا عن أنفسكم، وانظروا في ذواتكم وأشخاصكم، أخلقتم من غير شيء؟! و (شيء) هنا يرجع إلى أمرين: إما أنهم خلقوا من غير مادة، أو خلقوا من مادة، فهم يقرون بأنهم خلقوا من مادة المني، فمن الذي خلق المادة التي أنتم جئتم منها؟ وقيل في قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي: من غير خالق.

وهذا هو الأرجح، بدليل المقابلة في قوله: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) ، وبالسبر والتقسيم نقول: أنت موجود مخلوق، ووجودك في الدنيا لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: خلقت بلا خالق، خلقت نفسك، خلقك خالق قادر، وأي هذه الأمور الثلاثة صحيح؟ وأيها باطل؟ هل خلقت من غير شيء؟ لا، فالعدم لا يعطي وجوداً، والوجود لا يتأتى من عدم؛ لأن العدم لا شيء: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥] ، وإن قلت: أنا خالق نفسي، فنقول لك: قبل أن توجد كنت في العدم، فمن الذي أوجدك في الوجود لتخلق نفسك؟ فيبطل ادعاؤه أنه خلق نفسه.

ولم يبق أمام العقل إلا أن يؤمن بوجود خالق خلقه، وهذا هو -كما يقول علماء الكلام- دليل الإلزام.

نرجع إلى أقسام الناس في القرآن، وقد ذكرنا القسم الأول وهم المتقون {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:٥] .

وذكرنا القسم الثاني وهم الكفار، وسبب عدم إيمانهم أنهم لا يوقنون، وكانت النتيجة أن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وفي الحديث: (إن العبد ليذنب الذنب فينكت على قلبه نكتة سوداء، ثم يذنب الذنب فينكت على قلبه نكتة سوداء حتى يغلف بالسواد) ، وبهذا يحجب عنه النور الذي بداخله المعبر عنه بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:٣٥] ، وهو نور الإيمان في قلب المؤمن، فيحجب هذا النور في قلب هذا المسلم حينما يذنب تلك الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: (حتى يصبح كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً) ، وقد جاء في القرآن الكريم: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:١٤] ، فالكافر بكفره وعدم إيمانه وتصديقه ويقينه باليوم الآخر، يختم على قلبه وعلى سمعه، وزيادة على ذلك: يجعل الله على بصره عشاوة، فلا يرى حقائق الأمور، ولا يبصر آيات الله الدالة على أنه الواحد.

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ولكن {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:٧] ، والقسم الأول فيهم عدة آيات تذكر صفاتهم ومعتقداتهم، بخلاف القسم الثاني قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦] ، ثم ذكر النتيجة وهي الختم على قلوبهم، والغشاوة على أبصارهم، وانتهى أمرهم.