للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كيفية سؤال الهداية من الله تعالى]

يأتي القرآن الكريم من أوله إلى آخره وينبني على هذا المطلب، وقد أشرنا مراراً بأن الله سبحانه تعبدنا بطلب الهداية منه، ففي سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلوات الخمس وهي سبعة عشر ركعة في كل يوم من غير النوافل، يقرأ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] .

ومن إعجاز القرآن كما سمعنا من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وعلى علماء المسلمين جميعاً يقول: المولى علّمنا كيف نسأل عظيم المسألة؛ فنقدم بين يدي المسألة تعظيم الله سبحانه.

فتبدأ بحمده وتنزيهه وتمجيده، وإثبات صفات الكمال والجلال لله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] ، فتعترف وتقر بربوبيته سبحانه للعالمين جميعاً عالم السماء فيما ندرك وما لا ندرك، وعالم الأرض فيما نحصي وما لا نحصي، وما بين ذلك من إنس وجن وملائكة وحيوان ونبات وكل مخلوق، فكل عالم من عوالم الله، فالله هو ربه.

وبعد هذا التمجيد والتعظيم يظهر المولى سبحانه بأن ربوبيته للعالمين ربوبية رحمة وليست قهراً وغلبة، مع أن السلطان له وحده: {رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:٢-٣] ، أي: رباهم على الرحمة: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ويقول العلماء: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة؛ لأن رحيم صيغة مبالغة، والرحمة في الآخرة أوسع؛ لأنها دار البقاء والدوام وبها الجنة.

وفي الحديث: أن الله قسم الرحمة مائة قسم، وأنزل واحدة إلى الأرض، وادخر تسعاً وتسعين يرحم بها العباد يوم القيامة، ومن تلك الرحمة الواحدة من المائة ترحم الدابة ولدها، تريد أن تضع حافرها عليه فترفعه رحمة به.

ثم تأتي من جانب الآخرة والمآل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤] ففي الدنيا رب العالمين ورحمن رحيم، وفي الآخرة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، فملك العالم في الدنيا قد يهبه لمن يشاء، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ولكن في الآخرة يأتي موقف العظمة والتجلي: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:١٦] ، فهو مالك يوم الدين، وليس لأحد معه ملك ولا سلطة.

ثم تأتي بعد هذا وذاك وقد أيقنت بأنك في الدنيا تحت ربوبيته وفي الآخرة في نطاق ملكه، ولا مفر لك.

إذاً: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] على ما يرضيك، وعلى أي نهج تكون العبادة؟ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] ويُبين سبحانه رفقة هذا الصراط: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩] ، أين هذا الصراط المستقيم الذي طلبت الهداية إليه؟ أشرنا لذلك سابقاً عند قوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) بأن الله قسّم الناس أمام هذا القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام: - قسم آمن بالله وباليوم الآخر.

- وقسم كفر بالله وبرسوله وباليوم الآخر.

- وقسم مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

ولذا جاء بعد {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧] بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:١-٢] ، فإذا كنت تسأل الهداية إلى الصراط المستقيم، فخذ هذا الكتاب فإن فيه هدايتك، وكما يقول بعض العلماء: وبالتتبع للقرآن كله فإنه تفصيل وبيان لمجملات الفاتحة، ولذا سميت أم الكتاب، وبالنظر إلى سورة البقرة ترى أن جميع أبواب الفقه الإسلامي وجميع التشريعات لها حصة في سورة البقرة.

وعلى سبيل الإجمال أو التفصيل تأتي سورة آل عمران وتأخذ من سورة البقرة، فسورة البقرة بدأت بذكر خلق العالم في بداية خلق آدم واستخلافه في الأرض وكلام الملائكة وموقف إبليس من ذلك، وبعد ذلك ذكرت بني إسرائيل، وتأتي سورة آل عمران فتكمل تلك القصة، وتأتي النساء والمائدة بالتشريع في الحلال والحرام، وهكذا إلى أن تنتهي من القرآن الكريم، فتجد في نهاية المصحف بين يديك سورتي المعوذتين، الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:١-٥] .

وتجد في سورة الناس: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:١-٦] .

وبالنظر مرة أخرى إلى مضمون السورتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، فالمستعاذ به: رب الفلق، والمستعاذ منه: {شَرِّ مَا خَلَقَ} على سبيل العموم، ثم يرجع إلى التفصيل {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب} ، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَد} ، {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد} تلك الشرور الأربعة كلها جاء أمامها {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، صفة الربوبية جاءت قبل ذلك الشرور الأربعة.

بينما سورة الناس وهي خاتمة المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} فاشتملت على ثلاث صفات لله سبحانه، والتي تستعيذ بها كلها {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} .

انظر إلى هذا الإعجاز! ثلاث صفات لله سبحانه تقف أمام شر واحد ألا وهو: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} ؛ لأن هذا هو الذي أفسد الناس، وهو الذي يُفسد عليهم عقائدهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، ولا يوجد شر بين الخليقة إلا من جهته.

وإذا نظرنا إلى سورة الفاتحة وسورة الناس فكأننا نجد حلقة التقى طرفاها، وأصبح القرآن حلقة لا انفصام فيها؛ وتلك هي صفات العظمة في سورة الناس {رَبِّ النَّاسِ} {مَلِكِ النَّاسِ} {إِلَهِ النَّاسِ} .

فـ (إله الناس) هي معنى (الله) وهي الألوهية، و (رب العالمين) هي معنى (رب الناس) وفيها الربوبية، و (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) هي معنى (ملك الناس) وفيها المُلك، فكأنك حينما تنتهي من المصحف ترتبط بأوله مرة أخرى.

وهكذا أيها الإخوة! يتبين لك أن القرآن بعد أن أعطانا صراطاً مستقيماً يوقفنا في نهاية الطريق ويقول: قف واعرف عدوك، واحذر من الشيطان، واحذر من (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) ، فإذا وقع شيء للخلق فإن منشأه من هذا العدو (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) ، فهو الذي يحرف الناس عن الصراط السوي، كما بين صلى الله عليه وسلم حينما خط خطاً مستقيماً، ثم خط على جوانبه خطوطاً وقال: (هذا صراط الله المستقيم -وأشار إلى ذلك الخط- وتلك خطوط على جوانبه، على رأس كل طريق منها شيطان يدعو إليه) .