للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإعجاز في قوله: (في صعيد واحد)]

قوله: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) هنا يأتي السؤال السابق: تجمعهم في صعيد واحد يسألون في وقت واحد فيُعطي الجميع عطاؤه في وقت واحد، ما الفرق بينه وبين أن يُعطي كل إنسان مسألته على حدة؟ من يوم ما نزل آدم إلى الأرض وهو يعطي عباده مسألتهم، إلى أن جاء هذا الحديث بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم؛ لكن على انفراد.

هذه الصورة لو مثّلنا بمثال بسيط بطلاب فصل، العدد النظامي للفصل ما بين الثلاثين إلى العشرين، فمثلاً: دخل الأستاذ فبدأ الطالب الأول وسأل سؤالاً وأجابه، والثاني وهكذا على الترتيب حتى انتهوا، هل هناك مشقة على الأستاذ؟ لا، ويمكن نقول إن الأستاذ متمكن من المادة فأجاب على الجميع.

لكن إذا قام كل من في الفصل وكل واحد يسأل عن مسألته، فهل يستطيع أن يجيب الجميع في تلك اللحظة؟ وهل يستطيع أن يفهم كلامهم؟ هل يستطيع أن يسعهم بصدره؟ فهنا إذا كثر السؤال اختلطت الأصوات واختلطت الأحوال، لكن المولى سبحانه لا تشتبه عليه الأصوات، ولا تختلف عنده اللغات، ولا يتكاثر عليه السؤال، فيجتمع الأولون والآخرون من إنس وجن في صعيد واحد وكلٌ يطلب مسألته فيعطيه في الحال، أي قدرة هذه؟! تأمل هذا بعقلك وتصوره، ألم نشهد جزئية صغيرة من هذه كل سنة في الحج، ألم يجتمع الحجاج في عرفات، وكلٌ يرفع يديه إلى الله، ويدعوه بلغته، فأنت بجانب شخص لا تفهم لغته، والآخر بجانبك لا يفهم لغتك، لكن هل اختلفت على الله؟ ندخل في الصف عربي وعجمي وهندي وطويل وقصير، كل إنسان يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] ، ثم يسجد ويدعو بلغته، وكل واحد له حاجته ومسألته.

فكما يقولون: كثرة الناس تُدهش، وكذلك كثرة المسألة، فلو جاء ألف شخص لأكبر إنسان عنده خزائن الدنيا وطلبوا أن يسعفهم في يوم واحد -لا نقول في لحظة- فإنه لن يقدر أن يصرفهم، مجاعة مصر لما كانت في زمن العزيز ويوسف على خزائن الأرض، كان كل واحد له كيل بعير بتالعداد والنظام.

إذاً: هذه الصورة من الإعجاز، أن يقوموا في صعيد واحد من إنس وجن، السابق واللاحق، ويسألون حاجاتهم المختلفة كل على حدة وفي لحظة واحدة، ويعطي الجميع مسألته، كم يكفيهم هذا لو كان كل إنسان يطلب درهماً واحداً فقط، ماذا يكفي هذا العالم كله؟ معاوية لما جاءه أعرابي وقال: يا أمير المؤمنين! أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا وصلتني، قال: من أين أنت؟ قال: من كذا، وما الذي يجمعني معك في الرحم؟ قال: يجمعني أنا وأنت آدم وحواء، قال: صدقت، والله إنها لرحم أصيلة وثابتة ولها حق، وأخذ ورقة وكتب إلى وزير بيت المال.

ففرح الأعرابي بصلة رحم أمير المؤمنين، الرحم القوية الكبيرة آدم وحواء، ولما جاء الأعرابي بيت المال فإذا به يعطيه درهماً واحداً، قال: هل تهزأ بي، أهذه صلة أمير المؤمنين لرحم آدم وحواء؟ قال: هذا الذي كتب لك، قال: دعها عندك، ثم رجع إلى معاوية: ما هذا يا معاوية! هذه صلة رحمك بآدم وحواء بدرهم؟! قال: اصبر يا أخا العرب! والله لو أني وصلت هذه الرحم ما بقي في بيت المسلمين ولا درهم.