للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخطى إلى الصلاة صدقة]

قال عليه الصلاة والسلام: (وبكل خطوة) في اللغة خَطوة بالفتح، وخُطوة بالضم، الخَطوة -بالفتح- حركة القدم، والخُطوة -بالضم- كالمسافة التي خطوتها، فتقول: من هنا إلى الباب عشرون خطوة، وتقول: خطوت خطوتين، يعني: بالقدم، ولو كان شبراً واحداً، فبكل خطوة تخطوها أي: بكل حركة؛ ولذا جاء في الحديث: (إذا توضأ العبد في بيته، ثم خرج إلى المسجد كان له بكل خطوة يخطوها حسنة، في رفع قدمه حسنة، وفي وضعه حسنة) ، وفي بعض الروايات: (برفع قدمه يرفع له درجة، وبحط قدمه تحط عنه سيئة) يعني: يعطى حسنة، وتكفر عنه سيئة، وخَطوة وخُطوة معناها هنا واحد.

إذاً: الخُطوة أو الخَطوة إلى المسجد فيها صدقة، وجاء في بعض الروايات: (فإذا أتى إلى المسجد، وصلى الفريضة كانت له نافلة، أو قام إلى الصلاة ولا ذنب له) .

أيهما أفضل: البيت الذي يبعد عن المسجد، وتكثر الخطى في الإتيان إليه للبعد أو القريب من المسجد وتقل الخطى إليه؟ في كل خير، ومن العلماء من يقول: البعيد؛ لأن الأجر على قدر المشقة، ولكن هذه القاعدة يجب أن يتنبه إليها، فالأجر على قدر المشقة لا أن تحمل نفسك مشقة لتحصل على أجر.

بل الأجر على قدر المشقة في التكليف الذي كلفت به من الشارع لا منك أنت، كما قالوا: الفضيلة الذاتية خير من الفضيلة الإضافية، ففي الطواف بالبيت إن كنت تطوف محاذياً للبيت في محيط الدائرة فقد تكون الطوفة خمسمائة خطوة، وإن ابتعدت عن محاذاة البيت حوالى عشرة أمتار عن محيط الدائرة فستكون المسألة ضعف هذه الخطوات، فما هو الأفضل: أن تدنو من البيت مع قلة الخطى أو تبعد من البيت لكثرة الخطى؟ يقول النووي رحمه الله: الفضيلة الذاتية خير من الفضيلة الإضافية، فالطواف من خصائص البيت، فأيهما يكون ألصق من الطواف بالبيت: إذا اقتربت أم إذا ابتعدت؟ إذا اقتربت.

فذاتية الطواف ألصق بجدار الكعبة من كثرة الخطى.

إذاً: الاقتراب من الكعبة أفضل مع قلة الخطى، وكذلك صلاة الجماعة بالنسبة للفريضة، إن صليت في أي مسجد من مساجد البلد في جماعة حصل لك سبع وعشرون درجة، وإن كنت في المدينة، وجئت إلى المسجد النبوي، وفاتتك الجماعة وتصلي فرداً، (فصلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة فيما سواه) فإذا خرجت من بيتك من الحرة أو زقاق الطيار وقد أصبح الآن على حافة المسجد النبوي، فإذا جاء إنسان من أطراف المدينة يريد الصلاة في المسجد النبوي، ولكنه تعطل في الطريق، وكانت الجماعة في المسجد النبوي انتهت، ولكنه مر في طريقه بمسجد فيه جماعة: فهل يدخل ويصلي ويدرك الجماعة معهم أم يمشى إلى أن يأتي إلى المسجد النبوي؟ أيهما أحق وأولى: أن يؤديها جماعة ولو في مسجد في طرف البلد أم يترك الجماعة ويأتي ليحصل على فضيلة ألف صلاة في المسجد النبوي؟ هذه المسألة قامت فيها مشكلة وخصومة عند باب المسجد في الثمانينات، أشخاص يريدون الصلاة في المسجد النبوي ولو فاتتهم الجماعة، وآخرون يريدون الجماعة، وهم طلبة علم.

المهم: يؤكد النووي رحمه الله أن صلاتك الفريضة في مسجد مع الجماعة أفضل من أن تترك الجماعة وتأتي تصليها فرداً في المسجد النبوي، لماذا؟ يقول: كونك توقع الفريضة في جماعة أفضل؛ لأن الجماعة من اختصاص الصلاة، فهي فضيلة ذاتية، ولكن إذا جئت إلى المسجد النبوي فهل حصلت على (ألف صلاة) من أجل الصلاة أم من أجل المسجد؟

الجواب

من أجل المسجد، وفضيلة المسجد بالنسبة للصلاة ليست ذاتية ولكنها تبع (إضافية) .

إذاً: قرب البيت من المسجد أو بعد فبكل خطوة لك حسنة: فهل ندنو ونقترب من المسجد أو نبعد من أجل أن تكثر الخطى؟ يتفقون على أن قرب البيت من المسجد من الفضائل؛ لأنه يعين الإنسان على أداء الجماعة، فإذا كان بطبيعة الوضع جاء من بعيد، وتحمل المجيء، فهذا أمر لم يتكلفه هو، وفي الصدر الأول أراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى جوار المسجد، وقد كانوا يسكنون عند مسجد القبلتين، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (دياركم تكتب آثاركم) ، أي: (الزموا) اسم فعل الأمر (الزموا دياركم تكتب آثاركم) أي: مجيئكم، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبقى هؤلاء في أماكنهم حماية للمدينة؛ لأنه إذا أراد قوم أن يغيروا عليها وما وجدوا أحداً، فاجئوا الناس في المسجد، لكن حينما تكون كل قبيلة في منازلها حول المدينة فلا يمكن أن يفاجأ أهل المسجد بإغارة، فأمرهم أن يبقوا في أماكنهم لما لهم في ذلك من أجر لهم بكثرة الخطى، ولما في وجودهم من مصلحة.

إذاً: إذا أكرم الله العبد بدار قريبة من المسجد فهذه نعمة من الله، وأقرب بيت للمسجد كان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خوخة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وقد كانت موجودة في الأمام، فردوها إلى الوراء حينما توسع المسجد إلى الغرب،، وكنا نتمنى لو وضعت في محلها الأساسي إشارة لها، ولكنهم كلما وسعوا المسجد إلى الغرب نقلوا خوخة أبي بكر.

وكانت أبواب الخلفاء قريبة من المسجد، فـ عمر كان في بيت حفصة وهو في قبلة المسجد، واشتري منها عند توسعة المسجد، وهكذا بيت عثمان كان في الجهة الشرقية، إذاً: القرب من المسجد فضيلة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع، وجاء إلى منى، ونزل في مسجد الخيف، خط للمهاجرين بالجهة الشرقية أو الغربية بجوار المسجد، وخط للأنصار من الجهة الثانية بجوار المسجد، وأمر كل القبائل أن تنزل من ورائهم.

يأتي مبحث آخر: صلاة المرء في بيته ليس فيها خطى تحسب له، فهناك حديث: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) .

فهل قوله: (لا صلاة) بمعنى لا صحة أم لا فضيلة؟ الكلام في هذا كثير، وهل الجماعة شرط في صحة الصلاة أو شرط مستقل في كمالها؟ قال بعض العلماء: لو كان بيته قريباً من المسجد فليمش بخطى صغيرة صغيرة حتى يكثر الخطى! وهذا تكلف ليس له محل.

إذاً: (وبكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة) ، وجاء في بعض الروايات: (تخطوها في ظلام الليل) ؛ لأن المشي في الظلام ليس كالمشي في النور؛ ولذا صلاة العتمة وصلاة الفجر بين صلى الله عليه وسلم أنه لا يتخلف عنهما إلا منافق؛ لأنه لا يرى في مجيئه إلى المسجد، أما الظهر والعصر فإنه يشاهد، لكن العشاء والفجر إنما يأتي من يصلي لله.