للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من صفات المؤمنين لين قلوبهم لذكر الله]

جاء في بعض الآثار: أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى الصبح صعد المنبر وخطب الناس بهذه الموعظة البليغة، وأثر ذلك فيهم الحسن: بلاغة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولحسن استماع أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وكانت النتيجة كما قال العرباض: (وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) .

هذا الوصف -أيها الإخوة- يقف الناس منه اليوم على طرفي نقيض، ومن صفات المؤمنين ما ذكره العرباض: وجل القلوب عند ذكر الله، وذرف الدموع مخافة من الله، وقد قال في بيان صفة المؤمنين: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:٢] .

وجاء في بيان قسوة القلب، وضرب ذلك المثل بالحجارة، فقال الله سبحانه وتعالى مبيناً حال قلوب القساة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:٧٤] ، وجاء في وصف كتاب الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [الحشر:٢١] ، وقال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:٢٣] ، حقاً: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨] .

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في بيان السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ، وجاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يَعِسُّ بالمدينة ليلاً، فسمع قارئاً يقرأ داخل البيت، فتأثر عمر حتى حمل إلى بيته، وصار الناس يزورونه في بيته وما به مرض! ومن قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما طلب من بعض أصحابه أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ حتى جاء إلى الآية الكريمة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:٤١] ، فقال: (حسبك، قال: فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم تذرف دموعه) .

وهكذا -أيها الإخوة- يكون حال المؤمن إذا ذُكر الله عنده، وإذا ذَكر الله في نفسه، وإذا سمع القرآن الكريم، المؤمن حقاً يكون صافي القلب، ويقشعر جلده ويلين لذكر الله.

أما من ران قلبه بالمعاصي، وحجب عن نور الإيمان فإنه لا يتأثر، ولا يكون لآيات الله ولا لذكر الله عنده تأثير، وكما أشرت فالناس في هذا الباب على طرفي نقيض: رجل قاسي القلب، وآخر يتصنع الخشوع والبكاء، والأمر يبقى على حقيقته عندما يكون العبد ملتزماً بكتاب الله وسنة رسوله حقاً، فإنه بلا شك يتأثر إذا سمع كتاب الله، وإذا كان مدعياً ذلك بغير حق فإنه كما يقال: لابس ثوب عارية، وثوب العارية شفاف لا يقي ولا يستر.

وطريق الخشوع ما بينه العلماء أن الإنسان إذا قرأ كتاب الله، وتلا آياته، أمعن فيها، وبذلك يصل إلى قلبه، ويعي ما يقول، وبهذا يتأثر بما يقرأ، وكان بعض السلف يقوم الليل يقرأ، فتوقفه آية يظل يرددها حتى يطلع الفجر! وهكذا هنا قال الراوي: (موعظة بليغة) ، ومن أبلغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ موعظة يسمعها أصحاب رسول الله، ومن خير من أصحاب رسول الله؟ أولئك الذين أشربت قلوبهم الإيمان بالله وبرسوله، وأولئك الذي زادت شفافية قلوبهم وأرواحهم، وتأثروا فعلاً بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يأتي حنظلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (نافق حنظلة يا رسول الله! قال: وما ذاك؟! قال: نكون عندك فتذكرنا وتعظنا، فتذرف الدموع، وتخشع القلوب، فإذا انقلبنا إلى بيوتنا وعافسنا الأهل، نسينا ذلك كله، فقال صلى الله عليه وسلم: ساعة وساعة يا حنظلة! والله! لو دمتم على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرق، ولزارتكم في البيوت) ، نعم ساعة فساعة! وأي ساعة أجلّ وأعظم وأعلى من ساعة يقضونها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! يقول ابن مسعود: (والله! لقد أنكرنا قلوبنا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولما ندفنه بعد) .

هكذا يبيّن لنا العرباض رضي الله تعالى عنه أثر الموعظة البليغة من النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، والواجب على المسلم حقاً أن يجعل لنفسه ساعة يخلو فيها بربه، ويخلو مع نفسه، كما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لبعض أصحابه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) ، أليسوا مؤمنين؟! بلى، ولكن ليزدادوا من الإيمان، ويجددوا اليقين بما يتذاكرون من آيات الله، فحبذا لو يجعل الفرد لنفسه ساعة من الليل حينما تنام العيون، ويغفل الناس، فيتآنس مع ربه في ذكره لآياته، وشكره لآلائه، فوالله! ثم والله! إنها لأسعد لحظات في حياة الإنسان، وحينما يجد اللذة والحلاوة في تلك المناجاة الكريمة ينسى الدنيا بما فيها، ويكفي بياناً لذلك أن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه! إنها حلاوة المناجاة بينه وبين الله، ولذة القيام في تلك اللحظات؛ ولذا يقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!!) شكراً لله على نعمائه يقوم بذلك، وقد قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) .