للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم طاعة ولي الأمر الذي لم يحكم بشرع الله]

النقطة الثانية في إيراد الحديث، هي قوله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد) ، ويذكر العلماء أن من شروط ولي الأمر: حسن السلوك، والاستقامة، والمعرفة، والاجتهاد في دين الله لمصلحة عباد الله، فإذا كان عند التولية مستوفياً لشروطها، ثم طرأ عليه بعد ذلك ما ينقص هذه الشروط بأن ظهرت معصيته أو فسقه، أو عطل شيئاًَ مما يجب أن ينفذ، فماذا يكون موقف الأمة منه؟ وما مدى الإلزام في وجوب طاعة من لم يحكم بكتاب الله؟ وهذا السؤال وارد من قديم، ولما أنزل الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] {الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥] ، {الْفَاسِقُونَ} [المائدة:٤٧] تساءل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكلم السلف في هذا المعنى، أتلك الآيات في اليهود والنصارى؛ لأنها جاءت عقب ذكر التوراة، وجاء بعدها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:٤٥] ، فهل هي في أهل الكتاب خاصة أم في هذه الأمة؟ من أراد الوقوف على النصوص في ذلك، فليرجع إلى أمهات التفسير مثل القرطبي وابن كثير، وهما أوثق التفاسير، وابن جرير كما قال ابن تيمية: أولى التفاسير في الرواية تفسير ابن جرير، حيث يفسر بالسند وبالرواية عن سلف هذه الأمة، والحقيقة أن والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه ناقش القضية، وقال كما قال مجاهد: نزلت في أهل الكتاب، (وإنكم لتتبعون سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم.

ولكن: ما حكم ولي أمر الأمة إذا لم يحكم بما أنزل الله؟ أنصح طالب العلم أن يرجع إلى كتب التفسير، وإلى كتب العقائد كالطحاوية، وهي من أسلم وأصح ما كتب في عقيدة السلف.

يتفق الجميع أن من لم يحكم بما أنزل الله من هذه الأمة له حالات: الحالة الأولى: إن ترك الحكم بما أنزل الله معتقداً بأنه غير ملزم بذلك، وهو مخير إن شاء حكم به وإن شاء تركه، أو أنه لا يرى فيه المصلحة، ويرى أن ما تعارف عليه الناس أولى وأصلح، أو تركه استخفافاً به؛ فكل ذلك ردة عن الإسلام، وكفر مخرج من الملة.

إذاً: من ترك الحكم بكتاب الله، ويرى أنه مخير وليس ملزماً به، فهو رد لما أمر الله به، وإن ترك الحكم بما أنزل الله ويرى عدم صلاحيته، فهذا استخفاف بكتاب الله، وبأوامر الله؛ فهو كفر مخرج من الملة، وإن كان مستهيناً به لا يبالي به، فالحال كذلك.

الحالة الثانية: إذا ترك الحكم بكتاب الله، وهو يعلم أنه حكم الله، وأنه من عند الله، وأنه يجب العمل به في خلق الله، ولكنه إما عجز عن تنفيذه أو غلبته نفسه وهواه وأعرض عن الحكم بكتاب الله، وهو يعلم أنه آثم في إعراضه، وهو يعلم أن حكم الله هو الأحق وواجب التنفيذ، ولكن حال دون ذلك حائل، فتركه الحكم بكتاب الله -وهو يعلم أن الواجب تحكيم كتاب الله- كبيرة من الكبائر، أو كفر دون كفر، أو كفر بالنعمة، أو كفر بالتشريع، لكن لا يخرج من الملة، ويتفق أهل السنة أن مثل هذا الذنب داخل تحت المشيئة، لقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] .

ويقول بعض العلماء: الشخص العادي الذي يعلم أن في كتاب الله الأمر بالقطع والجلد: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:٣٨] ، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:٢] ومع ذلك يقدم على السرقة أو يقدم على الزنا فهل عمل بما حكم الله؟ إنه ارتكب معصية، وهو يعلم النهي عنها في كتاب الله، فيقول أهل السنة: لا نكفر أحداً بكبيرة، ولكن نترك أمره إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى.

إذاً: ولي الأمر إذا ظهرت منه المعصية، وظهر منه ما يوجب فسقه، فماذا نفعل؟ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن من صفات ولاة الجور تأخير الصلاة، وقال: (تعرفون منهم وتنكرون) ، وقال: (فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع) ، أي: رضي ما هم عليه، ووافقهم عليه، فهذا متابع ومشارك لهم، أما إذا لم يرض بذلك، وغاية ما في وسعه إنكاره بقلبه؛ لأنه لا يستطيع أكثر من ذلك فهو معذور، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمراء قالوا: (أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا الصلاة) .

وهذه الناحية خطيرة! ولا تنقضي في لحظات ولا في مجلس، ولكن الذي يهمنا التنبيه عليه: أنه لا يحق لأحد من الأمة أن يخرج على ولي أمرها لمجرد ظهور معصية أو فسق منه، وليس بأعظم من كبيرة في العقيدة دعا إليها الداعي في أوائل الدولة العباسية، حينما قالوا: بخلق القرآن، وامتحنوا العلماء، وسفكت الدماء، وامتحن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة، وثبت على ما أصابه فيها، وبقي على ما يعتقده السلف بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومع ذلك فأهل الخير والصلاح ما قاموا على أولئك أصحاب تلك الدعوة، ولا نقضوا عهدهم، ولكن صبروا وصابروا حتى كشف الله تلك الغمة.

إذاً: الطاعة لولاة الأمر واجبة، ما لم يأمروا بما يعارض الإسلام ويعطل أركانه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلهم السمع والطاعة وعدم الخروج عليهم، ما لم تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.