للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخلاف والمخالفة وموقف السلف منهما]

النقطة الثالثة هي قوله: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) ، لنعلم -أيها الإخوة- أن الاختلاف والمخالفة شيئان متغايران.

أما المخالفة فهي عن قصد وعمد، وأما الاختلاف فهو عن وجهة نظر بين اثنين فأكثر، واختلاف وجهات النظر لم تخل منها الأمة، بل ولا الأمم السابقة، وقد أورد علينا القرآن الكريم ما وقع من اختلاف في قضية واحدة، والله سبحانه وتعالى أعطى كلاً حقه، ولم يعتب ولم يؤاخذ أحد الطرفين، وذلك في القضية المشهورة بين نبي الله داود وابنه سليمان عليهما السلام في قضية الغنم التي نفشت في الحرث، وجاءوا إلى نبي الله داود فحكم بأن يعطى أصحاب الحرث من الغنم ما يعادل تلف حرثهم، وهذا إذا جئنا إلى قانون القضاء وجدناه حكماً عادلاً؛ لأن من أتلف شيئاً عليه تعويضه، وهؤلاء غنمهم أتلفت حرث القوم، فقال داود عليه السلام: يؤخذ من أغنامهم بقدر ما أتلفوا، ولما مروا على سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، سأل: ماذا قضي لكم؟ قالوا: قضي بكذا قال: لو كنت أنا الذي أقضي ما قضيت بذلك، وأقضي بأن تسلم الغنم بكاملها إلى أصحاب الحرث، لينتفعوا بألبانها وأصوافها، ويسلم الحرث لأصحاب الغنم ليصلحوه حتى يعود كما كان، فتعود الغنم إلى أصحابها، ويتسلم أهل الحرث حرثهم، وقد أمر الله سبحانه وتعالى كلا الحكمين: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٩] ، يعني: أقر داود أنه قضى بحكم وعلم، وليس عن جهل، وكذلك سليمان شرك داود في الحكم والعلم، ولكن فهمناها سليمان، والقضاء يحتاج إلى الفهم أكثر منه إلى الحفظ؛ لأن فهم ظروف القضية هو صلب القضاء، وكما قالوا: معرفة المدعي من المدعى عليه صلب القضاء، وعلي رضي الله تعالى عنه لما ولاه رسول الله قضاء اليمن، قال: أتبعثني قاضياً وأنا لا أعرف القضاء؟ فقال: (إذا أتاك الخصم فلا تقضي له حتى تسمع من خصمه) إلى آخره، وعمر رضي الله تعالى عنه لما كتب إلى أبي موسى الأشعري كتابه في القضاء الذي يعتبر إلى الآن منهج القضاء في العالم كله، حتى إن أوروبا تأخذ بمنهج عمر في هذا القضاء، ويهمنا أنه كتب إليه: (إذا أدلي إليك فالفهم الفهم) أي: إن فهم القضية قبل كل شيء، والقاضي إذا لم يفهم القضية بتوجيهاتها كالسمك في الماء، أما إذا فهمها ورسم الخطة التي يسير الخصوم عليها فإنه يصل إلى نتيجة حتمية، وهكذا ما عاب الله على داود، ولكن أثنى عليهما معاً، ورجح جانب سليمان، وهو حكم في قضية واحدة.

وقد وقع الخلاف في صدر هذه الأمة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع الخلاف في غيبته وآل الأمر إليه فأفتى فيه، ووقع من بعده في عهد خلفائه الراشدين، ومن بعد الخلفاء وقع الخلاف بين أئمة الأمة رحمهم الله تعالى.