للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جهاد النفس]

وهناك كلام في جهاد النفس لبعض العلماء، ويستدلون بحديث يتفق العلماء على تضعيفه (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) ، وهو جهاد النفس.

والمعنى صحيح ولكن ليس على هذا الأساس، حقيقة الجهاد الأكبر جهاد النفس، من حيث إنك تجاهدها في العبادات على الإخلاص في العمل، وتجاهدها على أداء الواجب من إقام الصلاة التي قال الله عنها: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:٤٥] فتحتاج إلى جهاد.

الصدقة يقول صلى الله عليه وسلم: (ما تصدق إنسان بدرهم حتى يفك عنه سبعين لحي جمل) .

فالشح كأنه بمثابة سبعين جملاً، يمسكون على المنفق ليردوه عن نفقته، ولا يتصدق التصدق إلا بعد انفكاك منها، ولن يكون ذلك إلا إذا كان عنده يقين وإيمان وتصديق بما سيعوضه الله من الأجر عن صدقته يوم القيامة.

ولهذا قالوا: جهاد النفس مقدم على غيره من أنواع الجهاد، وقال بعض العلماء بتقديم جهاد العلماء؛ لأن الأصل أن الشخص لن يحمل السيف بيده ويذهب إلى المعركة إلا بعد جهاد داخلي يقتنع عن طريقه بحقيقة الجهاد الخارجي، أما أن نترك الجهاد للعدو، ونعتكف ونجلس لنهذب أنفسنا ونروضها ونترك قتال العدو، فهذا لا يقوله عاقل.

والقرآن أشار إلى أمر عجيب، يرجع إلى هذه القضية ويبين أن جهاد النفس وإصلاحها هو المرتبة الأولى، لكنه لا يكون مقدماً عملياً على جهاد العدو.

أعتقد أن أكبر غزوة في الإسلام هي بدر الكبرى، مع أن صلح الحديبية كان فتحاً، لكن بدراً كانت غزوة غير متوقعة، بل كما قيل: كانت بدر بقيادة السماء.

ومن المعلوم أن كل غزوة لا بد لها من مقدمات، ولا بد لها من تهيئة، ولا بد لها من سوابق، إما أن تفرضها أنت أو تفرض عليك، وفي كلتا الحالتين تكون عالماً بظروف العدو عدداً وعدة وزماناً ومكاناً ودوافع، وبدر بخلاف هذا كله، فإنهم خرجوا لعير يأخذونها، وليس فيها إلا أربعين رجلاً، فخرجوا خفافاً: (من كان ظهره حاضراً فليركب) ، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، فيندبهم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ليستردوا بعضاً من أموالهم التي تركوها في مكة وأخذها كفار قريش، إذاً: أخذ المسلمين للعير ليس قطع طريق كما يقول المغرضون في ذلك، بل إعادة للحق إلى أهله.

خرجوا ولكن ذهبت العير وأتى النفير، ويخبر الله عما كان يجيش في صدور الصحابة فقال: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} [الأنفال:٧] ، فيأتي النفير، ويشاور النبي أصحابه، فيتفقون على النفير، ثم يأتي أرض المعركة، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:٤٢] ، {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَان مَفْعُولاً} [الأنفال:٤٤] ، حتى الحِس يختلف، ترونهم قليلين، ويقللكم أيضاً في أعينهم، فكما تنظرون إليهم قلة هم ينظرون إليكم قلة، ليطمع الكل في الثاني، سبحان الله! ويصف الموقف:: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:٤٢] ، منزل المسلمين يكون في العدوة الدنيا، هي أرض رملة تغوص فيها الأقدام، ومنزل المشركين أرض سبخة صلبة قوية، وحينما يتراءى الجمعان ينزل الله المطر من السماء، فتتماسك الرملة وتثبت عليها الأقدام، والأرض السبخة حينما يسقط عليها المطر تصير أرضاً زلقة، فالمطر ينزل فيكون لأقوام نصراً ولأقوام هزيمة، وهذا كله {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:٤٢] .

إذاً: ميادين القتال عديدة، ووسائل الجهاد أيضاً متعددة، وجهاد النفس مقدم، وما انتهت معركة بدر إلا والمسلمون أسروا سبعين وقتلوا سبعين، ورجعوا بالغنائم، وقد نزلت الملائكة تقاتل معهم يقودهم جبريل.

وبعد المعركة اختلفوا في أمرين: في الأسارى والغنائم، وقد جاء فيها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:١] ، وأول حديث عن غزوة بدر لا يتكلم عن الانتصارات ولا عن الصبر ولا عن الثبات، إنما تكلم عن الأنفال أنها لله وللرسول، وأنتم اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم سبحان الله، أي: قبل أن تنتصروا على العدو لا بد أن تنتصروا على ذات بينكم، لأن الجماعة إذا لم تكن مصلحة ذات بينها ومتلاحمة كالجسد الواحد وكالبنيان، فلن تستطيع أن تنتصر على عدوها فمن لم ينتصر على داخليته، ويحسن الارتباط بينه وبين أخيه، لن يستطيع أن ينتصر على عدوه الخارجي ولا أن يصلح غيره من بعده.

إذاً: لا شك أن جهاد النفس هو المبدأ، حيث ينطلق بعد إصلاح نفسه إلى قتال العدو، ولا أقول بترك قتال الأعداء، والجلوس لترويض وتهذيب أنفسنا في المساجد أو في المعتكفات، ونترك العدو يحتل الديار، لا يقول هذا عاقل أبداً.