للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أدلة البعث والنشور]

ما هي أدلة البعث وأدلة وجود الساعة التي سجلها القرآن الكريم ليتدبرها الخلق جميعاً؟ نجد القرآن الكريم في أوائل ندائه للناس ينادي باسم المسلمين أو المؤمنين؛ بل باسم الناس؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من واجب الناس لا المسلم ولا المؤمن فقط، يقول سبحانه بعدما قسم الناس أمام دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢] ، وهم المؤمنون: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:٥] .

والقسم الثاني الذين كفروا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦] .

والقسم الثالث: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] .

ثم جاء بعد هذا التقسيم الثلاثي واقع الناس أمام هذه الدعوة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:٢١] ، الناس: من ناس ينوس إذا تحرك أو صوت؛ لأن العالم لهم حركات على وجه الأرض: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:٢١] ، الرب الخالق، المصلح المدبر، المسيطر المسير، لكن فسره بما بعده: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:٢١] ، فهل ينفي إنسان بأن الله هو الذي خلقه، لقد ألزمهم الله بالقاعدة المتقدمة: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:٣٥-٣٦] ، لو أنهم نظروا في مجيئهم إلى هذا الوجود، ولعلموا أنهم لم يخلقوا من عدم ولم يخلقوا أنفسهم، وأن لهم خالقاً وهو الله.

{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١] ، أي تكونوا متقين مؤمنين، وتقدم أنهم {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:٥] ، وتقدم: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢] ، وهنا قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١] .

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢] ، عند هذه الآية الكريمة يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أقام الله في هذه الآية ثلاثة أدلة على وجود البعث والجزاء والحياة بعد الموت، أما الأول فقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:٢١] ، ففيه إثبات البعث حين يقيم المولى سبحانه الدليل للإنسان من نفس الإنسان، وأقوى دليل في ذلك آية (يس) التي أوردناها؛ لأن الإنسان إذا تذكر وجود نفسه، وكيف جاء إلى الحياة، عرف أن الذي أوجده أول مرة قادر على أن يعيد مجيئه، ولذا قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٨-٧٩] .

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:٥٨] ، جئت زوجك وجاء المني، وذهب في طريق ولا تعلم أين ذهب، ولكن {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:٥٩] ، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:٧٨] ، فقد كنت ماءً مهيناً، {نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:٢] ، أبوك من أين جاء؟ طريق طويل.

هناك أبونا آدم الشيخ الكبير، {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:١] .

نطفة جاءت، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩] ، تقول: إنه ذهب في التراب، تقول إنه تفتت، تقول: إنه كذا الله سبحانه بكل خلق عليم، وهو الذي خلقه أول مرة، فهو قادر على أن يعيده، وهو أهون عليه.

فلو أن الإنسان لم ينس إيجاده، وتذكر كيف جاء لما سأل هذا السؤال؛ فالذي خلقهم أول مرة قادر على أن يعيدهم {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:٢٧] ، فهذا دليل أول بأن الله سبحانه خلق الإنسان وأنه سيبعثه.

أما الدليل الثاني: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:٢٢] ، فانظر إلى هذه العوالم سفلية وعلوية، وهذا الكون العظيم الذي خلقه الله وسيره ودبر أمره، فيما نشاهد في الأرض من محيطات تتلاطم وما فيها من عوالم لا يعلمها إلا الله، وهذه الأرض وما عليها من جبال رواسٍ وما ينتب فيها من نبات، وهذه السماء وما فيها من أفلاك وكواكب، وما فيها مما نشاهد، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧] .

والقادر على خلق الأكبر أهون عليه خلق الأصغر.

أما الدليل الثالث؛ فقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:٢٢] ، فالماء ينزل وتتلقاه الأرض، ثم ينبت النبات من الأرض وقد كانت ميتة، فهذا هو الدليل الثالث، ويوضحه قوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:٣٩] .

أرض هامدة يابسة، يأتيها الماء من السماء، فإذ بها تهتز -والفلاح يعرف هذا- وربما تسمع صوتاً للماء وهو يجري عليها أو وهي تتفتح لتلقي هذا الماء في باطنها، ثم إذا بها تنبت، وإذا بها تأتي بالثمار، وبالحبوب وبكل شيء، إن الذي أحياها من موتها لمحيي الموتى، ولو جئنا إلى عدد الموتى من آدم إلى يوم القيامة ما كان أكثر من عدد حبات النبات التي تنبت.

فهذا هو الدليل الثالث.

إذا جئنا إلى الدليل الرابع، وهو إحياء الموتى في الدنيا، ونعاين نماذج ذلك، ونأتي إلى صورة النبأ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:١-٩] .

فمن أدلة البعث: الحياة والموت في الدنيا، فهذا هو النبأ العظيم الذين يختلفون فيه، وجلّ المفسرين على أنه البعث.

{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:٨] والأزواج الأصناف؛ فهل تستطيع قدرة في العالم أن تتحكم في الأزواج والأصناف؟ لا والله؛ فالمرأة تحمل تارة ذكراً وتارة أنثى، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى:٤٩] ، أما أنتم فما عندكم شيء.

{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:٩-١١] ، ماذا {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:١٢] ، أرضاً مهاداً وسبعاً شداداً، {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:١٣] ، {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:١٤] ، {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:١٥-١٧] ، أليست هذه أدلة ألبعث؟ يوم الفصل هو يوم القيامة، لم تختلفون في النبأ العظيم وهذه أدلته؟ ثم نأتي إلى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:٩] ، هذه الميتة الصغرى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:٤٢] ، تنام وتغيب عن الوجود، لا تدري ولا تدرك أنها ميتة صغرى، أهل الكهف ناموا ثلاثمائة سنة وتسع سنين بالتوقيت الهجري، فلما استيقظوا قيل: كم لبثتم؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:١٩] لم يعرفوا أنها ميتة صغرى، فأنت في كل يومٍ تشاهد آية البعث في نفسك؛ فإن الذي أخمد هذا الجسم والذي أنامه ثم بعد ذلك أرسله وبعثه هو الله، وما الفرق بين هذه النومة وبين تلك في القبر، وبين هذه اليقظة وبين تلك؟ الفرق بينهما: أن الجسم هنا لا زال على تركيبه، وما زال يتنفس ومقومات الحياة فيه، أما هناك فقد تفتتت أجزاؤه في الأرض، ولكن الله قادر على أن يجمعه.

وفي الحديث: أن رجلاً أوصى لأولاده إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم يأتوا في يوم شديد الريح ويذروه على ساحل البحر لينتشر على أمواج المحيط، فجمع الله جسمه من ذرات مسحوقة، وأعاده وسأله: لم فعلت ذلك؟ قال: مخالفة منك يا رب، فقال: قد غفرت لك.