للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نظرة الجاهلية إلى الكذب]

بل من المعلوم أن أصحاب المروءات لا يرون الكذب من شيم الرجال، بل نجد ذلك -أيضاً- حتى عند أهل الجاهلية الذين كانوا على عبادة الأوثان، وخير شاهد على ذلك قصة أبي سفيان حينما كان بين يدي هرقل.

الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أرسل بكتب إلى الملوك، وممن أرسل إليهم قيصر الروم، فلما جاءه الخطاب وقرأه وفيه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:٦٤] إلى آخره، فقال لوزرائه: إذا جاء وفد من العرب فأخبروني، مع أنه كان عالماً بالنجوم، وقد رأى نجم نبي الختان قد ظهر، فقال: أي الأمم تختتن، قالوا: العرب، قال: إذا جاء وفد من العرب فأخبروني، فلما جاء وفد أبي سفيان وجماعة معه، قال: أنتم من العرب؟ قالوا: بلى.

جئتم من الحجاز؟ قالوا: بلى أظهر فيكم من يقول إنه نبي؟ قالوا: بلى.

قال: من أقرب الناس إليه نسباً فيكم؟ قالوا: أبو سفيان.

قال: ادن، واجلسوا أنتم من ورائه، إني سائله أسئلة، فإن صدق فصدقوه وإن كذب فكذبوه.

فقال: إني سائلك عن هذا الذي ظهر عندكم، أكان أبوه ملكاً؟ قال: لا، قال: أكان في قومه من يدعي النبوة؟ قال: لا.

قال: أجربتم عليه كذباً؟ قال: لا.

قال: أقاتلتموه؟ قال: بلى.

قال: كيف كان القتال بينكم؟ قال: سجالاً؛ تارة لنا وتارة علينا.

قال: أخبرني عمن يدخل في هذا الدين، أيخرج منه أحد بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: أيكذب عليكم؟ قال: لا.

ثم قال: سألتك: أكان في آبائه ملك فقلت لا، فلو كان أبوه ملكاً لقلت يطلب ملك أبيه الضائع.

ثم سألتك: أكان في قومه من يدعي النبوة فقلتَ لا، ولو كان فيهم لقلت: يدعي ما ادعاه غيره.

وسألتك: أحاربتموه، قلت: بلى والحرب سجال، وهكذا شأن الأنبياء مع الأمم.

وسألتك: أيخرج أحد ممن دخل في دينه بعد أن دخل فيه فقلتَ لا، وهكذا بشاشة الإيمان إذا خالطت القلوب.

وسألتك: أيغدر، قلت لا.

وسألتك: أيكذب، قلت: لا يكذب.

فإذا كان لا يكذب على الناس فلن يكذب على الله.

ثم قال أبو سفيان: ألا أخبرك بما تعلم أنه يكذب؟ قال: وما هي؟ قال: ويزعم لنا أنه أتى مسجدكم هذا، ورجع إلينا في ليلة واحدة، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً في المجيء وشهراً في العودة.

هذه التي وجدها أبو سفيان.

ثم قال أبو سفيان بعد أن خرج من قصر الملك: والله ما منعني الكذب عليه بين يدي هرقل إلا أن يؤخذ عني الكذب.

حينما قال: ألا أخبرك بما تعلم أنه كذَب، وقال: لقد أخبرنا أنه أتى إلى مسجدكم هذا وصلى فيه ورجع من ليلته، هذه أكبر دليل عند أبي سفيان على الكذب، وكان دهقان من دهاقنة بيت المسجد على رأس الملك، قال: نعم وقد علمت تلك الليلة، قال: وما علمك بهذه الليلة.

أبو سفيان يأتي بالقصة من أجل أن يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب، والله يأتي بالدهقان ليصدق على ما قال أبو سفيان بأنه جاء وصلى ورجع في ليلة.

فقال له الملك: وما علمك بذلك؟ قال: كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، وفي تلك الليلة غلقت الأبواب إلا باباً واحداً، فعالجته، فدعوت الخدم واجتمعنا عليه فلم نستطع فدعوت النجاجرة، -هكذا يقول ابن كثير في القصة- فدعوت النجاجرة فنظروا إليه فقالوا: إن الجدار أو السجاف قد نزل على الباب، والليل مظلم ولا نستطيع أن نفعل شيئاً، فدعه إلى الصباح لنرى من أين أُتِي ونصلحه، فتركته على ما هو عليه، ومن الغد في الصباح بادرت إلى الباب فإذا به كالعادة يقفل ويفتح، ونظرت إلى صخرة عند الباب فإذا بها مخروقة وبها أثر دابة، فعلمت أن هذا لا يكون إلا لنبي! والذي يهمنا أن أبا سفيان وهو لا زال على الشرك عدواً للإسلام، يقول: ما كذبت -يعني أحب ما يكون إليه أن يكذب رسول الله عند هرقل يقول: ما منعني أن أكذب على رسول الله إلا خشية أن تؤخذ علي كذبة، فلا يصدقني في خبر بعد ذلك.

فكيف به بعد إسلامه، وهكذا يُسأل صلى الله عليه وسلم: أيسرق المسلم؟ فيقول: نعم أيفعل أيفعل حتى إذا سئل: أيكذب؟ فقال: لا.

سبحان الله، والحديث الآخر: (وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) .