للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عبرة وعظة من السعي بين الصفا والمروة]

تأتي إلى الصفا والمروة، فيقال: اجرِ بين العلَمين، أيضاً ستسأل: لماذا أجري؟ ومن العجب! أني سمعت شخصاً يقول له صبيٌّ صغيرٌ: اجرِ هنا، قال: لماذا؟ قال: لأن سيدتنا هاجر كانت تجري هنا لما كانت تطلب الماء لولدها.

فكان جوابه: هي تطلب الماء لولدها، وأنا ما علاقتي؟! هذا من قلة الفهم! الرسول صلى الله عليه وسلم كم بينه وبين هاجر؟ ومع هذا كان يجري ويسرع بين العلَمين؛ لأنك عندما تمشي تلك الخطوات تأخذ هذا الدرس في هذا المكان، وثق أن كل خطوة وكل شبر تخطوه في مناسك الحج هو درس وعبرة! نعلم جميعاً أن أرض الشام تسمى أرض النبوات؛ لأن جميع أنبياء بني إسرائيل كانوا في الشام، فلما صار بنو إسرائيل غير صالحين لحمل الرسالة للبشر نقلها الله إلى البيت الحرام، وإلى ذرية إسماعيل، ونقلها إلى تلك البقعة في شخصية إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

قال الله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:١٢٤] ، ومن الابتلاء أنه حرم الولد، وما رزقه إلا بعدما بلغ الثمانين من عمره، ومن الابتلاء ما وقع له في بادئ أمره مع أبيه، ومع النمرود ومع قومه حتى تحداهم في الأصنام وكسَّرها، فأوقدوا له النار، وصبر عليها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، ثم هاجرَ، وكل ذلك ابتلاء من الله، وإبراهيم يتم ويوفي: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:٣٧] .

{فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:١٢٤] ، ومن الابتلاء: أنه لما رُزِق الولد، لم يقر عنده، وتطيب نفسه به لله، ثم بأمر من الله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:٣٧] ، كأن قوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} يريد به: عوضاً عن الزرع والمياه ونحوها.

ثم تأتي الدعوة: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً} [إبراهيم:٣٧] ما قال: أرجلاً أو عيوناً أو أشخاصاً، لا.

بل {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:٣٧] ، تكون في أقصى الشرق أو أقصى الغرب وقلبك يهوي إلى بيت الله الحرام، وربما ترسل الهدايا إلى البيت، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل هديه من المدينة إلى مكة وهو جالس في بيته.

فترك إبراهيم هاجر وطفلها الرضع، وتأتي هنا المعجزة والدرس لكل من يسعى بين الصفا والمروة، امرأة مع طفل رضيع، ومعها سقاءٌ من ماء بواد غير ذي زرع، يضعها إبراهيم ويعود راجعاً.

فتسأله: إلى أين أنت ذاهب؟ - راجع إلى الشام.

- لمن تدَعْنا هاهنا؟ - لله.

- آلله أمرك بهذا؟ لأنه شيء غير معقول! - نعم.

- اذهب فلن يضيعنا الله.

لاحظوا إيمان امرأة معها طفل تخاف عليه، ما دام أن هذا أمر الله فاذهب فلن يضيعنا.

أي إنسان عنده هذا اليقين بالله؟ {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} ، ولا ماء ولا أنيس ولا جليس ولا شيء، وهي وحدها ومعها طفلها، فقالت: ما دام أن هذا من أمر الله فاذهب؛ فنحن في رعاية الله ولن يضيعنا.

أيوجد اتكال على الله أكثر من هذا؟! ثم الماء الذي في السقاء انتهى، فأخذت تبحث عن الماء، وتريد أن تستطلع الوادي؛ لأن مكانها عند البيت منخفض، وإلى الآن تجدون محل الكعبة منخفضاً، حتى إن السيول كانت تدخل الحرم.

فنظرت إلى أقرب مرتفع إليها لتصعده وتستطلع ما وراءه لعلها تجد غادياً أو رائحاً يسعفها بماء، فكان الصفا، فصعدت عليه ولم تجد شيئاً.

فنظرت إلى أقرب مرتفع آخر تستطلع ما وراءه فإذا به المروة، وحينما تنزل من الصفا إلى بطن الوادي ينخفض مستوى النظر ويغيب عنها طفلها، فتسرع حتى تأتي إلى الجانب الثاني لترى ولدها، فتمشي مشياً عادياً، وهكذا بقيت ذاهبة آتية سبع مرات، فإذا بالمولى الكريم سبحانه وتعالى يغيثها بجبريل، فيأتي ويشق زمزم.

ولِم لَم يكن هذا من أول مرة؟

الجواب

لما كانت آمالها مرتبطة بأسباب الأرض والخلق تُركت حتى تخلصت من تلك العلائق البشرية، ولم يكن أمامها مطمع في مخلوق، واتجهت إلى الخالق بكل إخلاص، فكان الفرج من عند الله.

وهكذا المولى سبحانه يريد أن تخلص اتجاهك إليه، وإذا رفعت أكفك وقلت: يا ألله.

لا يكون في القلب سواه، فإذا توجهت حقيقة بقولك: يا ألله، كان لله، وليس لأحد سواه، فثق عندها بالإجابة.

وبعضهم يقول: هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب.

لكن أقول: لا، عند الاضطرار والتوجه بصدق، فإن أي اسم من أسماء الله يجري على لسانك يجيبك به؛ لأن المولى يريد أن تخلص له بالدعاء، كما جاء في حديث نصرة المظلوم: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) ، لماذا؟ لأنه علم أن له رباً فدعاه، فالكافر المشرك الذي يعبد الصنم أو يقول: الله ثالث ثلاثة، أو يقول: عزير ابن الله، هذا يفعله في حالة الرخاء والسعة، وعند الشدة يترك كل شيء، ويتجه إلى الله الواحد الأحد؛ لينصره من مظلمته، وهنالك يستجيب الله له؛ لأنه رفض كل الآلهة، واتجه إليه وحده.

حصين لما جاء وسأله رسول الله: (كم لك من إله؟ قال: سبعة.

ستة في الأرض، وواحد في السماء.

قال: من الذي لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) .

يعني: عند الرغبة أطلب منه، وعند الرهبة أخاف منه، والبقية لست خائفاً منهم، ولا أطلبهم، فإذا كان الذي لرغبتك ورهبتك هو الذي في السماء، وهو الله سبحانه، فإذاً أنت مؤمن بالله في حالة الطلب.

وهكذا أمنا هاجر حينما سعت وترددت كان ترددها بمثابة صقل لهذا القلب، ونزع لكل خيوط الأمل من الأرض والبشر، حين تتوجه التوجه الخالص إلى الله، فجاء جبريل يشق الصخرة، وتنبع عين زمزم على وجه الأرض، حتى ترى الماء عند ولدها، وتأتي وتقول: زمِّي زمِّي، ويقول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله هاجر! لولا أنها زمَّتها لكانت زمزم نهراً يجري) .

إذاً: كيف تحافظ على السعي؟ وكيف تستفيد منه؟ الشخص الذي هذب نفسه، وجدد يقينه بالله، وتوكل عليه حق اتكاله؛ ينقلب إلى بلده وهو لا يرجو ولا يخشى ولا يعبأ بأحد إلا بالله.