للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما وقع للشيخ من قضايا وعمل فيها بالقرائن]

وللمناسبة، رفعت إليَّ قضية أربعة غير سعوديين، ادعى أحدهم على شخص منهم بخمسة وثمانين ألف ريال -والقضية طويلة، وانظروا -يا إخواني- ما يعانيه القاضي-، وفيها اعتراف وتوقيع فلان، وكتابته: تكلفت بدفع مبلغ كذا لفلان، هو موقع، ويشهد عليه اثنان، والشهود كانوا غير موجودين، فالمدعى عليه أنكر وقال: هذا أنا لا أعرفه، وهذا ليس اسمي، وأخرج إقامة له فيها اسم غير الاسم المكتوب في السند، لو كنتم كلكم قضاة ماذا تقولون؟ ادعى على إنسان، واسم الإنسان ليس موجوداً، وهذا الشخص يحمل إقامة رسمية باسم غير الاسم الموجود في السند، ويقول: هذا الشخص عمري ما رأيته ولا أعرفه، فهل بقي للقاضي شيء بعد هذا يا جماعة؟! ما بقي له شيء، إلا أن الله يحق الحق، فقلت: أخبرني -يا فلان- كيف كتب هذا السند؟ وكيف كتب باسم غيره؟ فضحك شخص، فقلت: لماذا تضحك؟! وراء هذا شيء! فقال: اسمه الحقيقي هو الذي في السند، وسُفر سابقاً وجاء إلى المحل الفلاني، ودخل بهذا الاسم الجديد الذي في الإقامة، وهذه جريمة ثانية! قلت: وهل تعرفه؟ قال: أعرفه من كذا سنة، ونحن بالمملكة يعرف بعضنا بعضاً، قلت: يا فلان! ماذا تقول؟ قال: أبداً.

لا أعرفه.

وبعد أن تركت القضية وجلسنا جلسة ثانية، والشهود لم يأتوا، وهذا الرجل في السجن، وتجري -قدراً من الله- مناقشة فيما بينهم في كتب السند، فإذا بهم يسكتون، فسألت المنكر- سؤالاً مباغتاً: أين كتب هذا السند في الرياض أو في المدينة؟ فالذي كان يقول: لا أعرف، وليس هذا اسمي قال: كتب هذا السند في المدينة.

إذاً: السند صحيح، فأراد أن يتراجع، ولكن قد أنطقه الله بالحق، ثم اعترف وقال: نحن أربعة التزمنا بالمال، فلماذا يدعي عليّ وحدي ويترك البقية؟ فهذا القاضي لما اختصم إليه اثنان، وليس عند المدعي بينة، هل قال: ليس لك عنده شيء، واحلف أنت أيها المنكر؟! لأنه إذا كان عنده استعداد أن يأكل مال الناس فما الذي يمنعه من أن يحلف؟ ولذا ابن القيم يقول: من حصر البينة على شاهدي عدل ربما أضاع حقوق الناس.

وكذلك من اعتمد على مجرد الفراسة ربما ظلم الناس، والفراسة تخطئ وتصيب، وإقامة البينة على الدعوى ليس مبدأً في كتاب الله وسنة رسوله فحسب، ولكن رب العزة سبحانه يعامل عباده بالبينة والإقرار قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨] ، وقال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٤] ، فرب العزة لا يخفى عليه شيء، وإذا حكم لا معقب لحكمه، ولكن يأتي العبد يوم القيامة فيقول: ربي! لم أفعل هذا! قال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥] ؛ لأن الكافر ينكر، فإذا أنكر وكذّّب الملائكة ينطق الله جوارحه، كما قال الله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:٢١] .

إذاً: كان رب العزة وهو سبحانه هو القائل عن نفسه: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩] ، ولا تخفى عليه خافية، وهو مع ذلك يعامل الناس بالبينة، فيجب على القضاة أن يحكموا بالبينة.