للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضيلة ستر المسلم]

قال صلى الله عليه وسلم: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) .

بعض العلماء يقف وقفة تنبيه عند الألفاظ، فالحديث في أوله (من نفس عن مؤمن) ثم: (من يسر على معسر) ، وهناك قال: (من ستر مسلماً) .

ففي تنفيس الكرب جاء بالمؤمن، وستر العورة جاء فيه بالمسلم، مع أن في بعض ألفاظ الحديث أيضاً ذكر المؤمن، كما في: (الرحلة في طلب العلم) .

يقول العلماء: الكربة قد تكون ظاهرة أو خفية، والإيمان من أعمال القلب خفي.

فأركان الإيمان كلها اعتقادية، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وكلها خفية، لكن الإسلام صلاة وصيام وزكاة وحج، وكلها أمور ظاهرة.

فكذلك ستر العورة، فأكثر ما تكون تكون ظاهرة، وأما في أي شيء يكون ستر العورة، فبعضهم يقول: في العورة الشرعية الحسية التي تبطل الصلاة بانكشافها.

فإذا وجدته فقيراً ما عنده ثوب أعطيته ثوباً وسترته، أو وجدت إنساناً بلغ ويريد الزواج، ويخشى على نفسه العنت، ويريد أن يستر عورته ساعدته على الزواج، فهذه عورة أيضاً تتصل بالعورة الأولى، وساعدت على ستر عورته حساً.

ولكن معنى الحديث أعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما جيء بـ ماعز قال لـ خالد: (هلا سترته بردائك بدل أن تأتيني به) .

فالستر على المسلم في عورته في كل ما يخشى أن يفتضح فيه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) ، فإذا ما كان إنسان مستقيماً وزلت به قدمه في أية ردية كانت، فقال باللسان وأخطأ في غيبة إنسان، أو يد امتدت إلى شيء مما لا يليق، أو زلت به قدمه إلى حد من حدود الله ولم يرفع إلى ولي الأمر فإنك تستره.

جاء رجل إلى ابن مسعود وقال أنا ذاهب إلى الشرط أستدعيهم، قال: لماذا؟ قال: جارنا فلان يشرب الخمرة.

قال: ارجع، هل نصحته؟ قال: لا.

قال: اذهب إليه فانصحه أولاً.

والذي يهمنا أن ستر العورة يكون للعورة الإنسانية البشرية، ويكون لمعنى أعم من ذلك، سواءٌ أكان في النكاح وستر الإنسان أم في ارتكاب خطيئة.

ولـ أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قصة يذكرنا بها هذا الحديث، فإنه رضي الله عنه سمع أن الحديث في مدينة الفسطاط بمصر، فشد رحاله راحلاً في طلب هذا الحديث إلى مصر، فلما قدم الفسطاط أمر من يستأذن له على الأمير، وقال: فلان عندك؟ قال: مرحباً أبا أيوب الأنصاري، ما حاجتك؟ قال: لي حاجة عند فلان، فابعث معي من يدلني على منزله.

فذهب معه من يدله على منزله، فقال: قل له: أبو أيوب في الباب، فأخبره، فجاء الرجل وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب إلى مصر؟ انزل.

قال: لا.

سمعت حديثاً لم يبقَ أحد سمعه إلا أنا وأنت فجئت أتوثق منه، سمعنا حديثاً في ستر عورة المسلم.

قال: نعم.

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر عورة مسلم في الدنيا ستر الله عورته في الدنيا والآخرة) ، فلوى عنان بعيره وقفل راجعاً، فقال له: انزل.

قال: لا.

وهنا نعلم أن العلماء رضي الله تعالى عنهم وأصحاب رسول الله وأهل الحديث ما كانوا يرحلون لزينة ولا لزخرف، ولا لأي شيء إلا لطلب العلم، وإذا حصل طلبته عاد حالاً.

وفي هذه القصة يقولون: ما أدركت جائزة الأمير أبا أيوب إلا بعد أن وصل العريش، فالأمير أرسل بجائزة وهدية إلى أبي أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصاحب الهدية أسرع وراءه فما أدركه إلا في العريش، وما كان هناك قناة السويس؛ إذ كانت الصحراء متصلة عائد إلى المدينة.

ومن المناسبة التنبيه إلى ما يتخصص فيه طالب العلم ويتفرغ لعلمه الذي جاء إليه أو لمهمته في مادته التي ابتعث من أجلها.

يقولون في ترجمة ابن القاسم صاحب مالك لما جاء إلى المدينة: جاء الفيل في يوم من الأيام فهرع الناس كلهم ينظرون إلى الفيل، وبقي ابن القاسم عند مالك، فقال له: لم لم تقم تنظر إلى الفيل وليس بأرض قومك؟ قال: إنما جئت أطلب العلم من مالك، ولم آت لأرى الفيل.

فهذا جاء لطلب العلم، وما أغراه شيءٌ من الغرائب.

وكذلك أبو أيوب، ونحن نعلم طبيعة الصحراء وطبيعة الجزيرة وطبيعة المدينة، ونعرف طبيعة مصر بنيلها وبأشجارها وبهواءها وبكل ما فيها، فلم يغره شيءٌ من ذلك كله ليجلس أو يستريح من السفر يوماً أو يومين، بل جاء في طلب علم وحصّله ورجع.

فرحل أبو أيوب من أجل هذا الحديث من المدينة إلى فسطاط عمرو بمصر من أجل أن يتثبت في هذا الحديث.

يقول العلماء: الستر على المسلم ما لم يفضح نفسه هو، بمعنى أن يجاهر ولا يبالي.

فهذا الشخص الذي لا يبالي بشعور الناس ولا بإحساسهم قد هتك ستر نفسه، أما الشخص الذي يستتره والذي يستحيي، والذي يقع منه الخطأ على غير قصد فهو الذي يستره والعصمة في البشر للرسل فقط.

فليس في البشر معصوم إلا الرسل، فلا ينبغي لإنسان أن يبادر حالاً، ولا ينبغي لإنسان أن يتتبع عورات المسلمين، وفي بعض الآثار: (من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) ، فدل أن تستره تتبعه حتى تكشف أمره! فهذا لا ينبغي.

وإذا جئنا من ناحية المروءة والإنسانية فإن الوقوع في زلة مرض وخطأ، فإذا وجدت إنساناً مريضاً أتزيده مرضاً على مرضه، أم تحاول أن تداويه ليتشفى من هذا المرض؟! وإذا كنت تمشي في الطريق وفيه حفره، ووجدت إنساناً في غفلة منه سقط في تلك الحفرة، أتأتي وتهيل عليه التراب، أم تقول: لا بأس عليك.

وتمد يدك إليه، وتنبهه إلى أن يحذر في المرة القادمة، فأيهما ينبغي للإنسان وتقتضيه مروءته؟ فهذه الفقرة من هذا الحديث لو وقف عندها إنسان وكررها مراراً فإنها تنفعه، فليحذر المسلم أن يتتبع عورات الناس، وإذا وقف على شيءٍ قدراً لا ينبغي أن يشيعه، ولا ينبغي أن يفضح إنساناً وهو قادر على أن يستره، ولو شفع في أمره قبل أن يصل إلى السلطان فلا مانع، ولكن إذا وصل إلى الحاكم فهناك لا شفعة، ولا تدخل لأحد.

قال صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) .

الله رب العزة مالك الملك بيده ملكوت السموات والأرض يكون في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.

وما سعة عونك أنت، وأنت تحتاج إلى من يعينك، ولكن -تفضلاً من الله- مادمت في عون عبد من عباد الله يكون الله في عونك.

فإنسان له عدة أولاد، فقدم إنسان معروفاً لأحد أولاده، فهو بالجبلة يشفق عليه، أو يكرمه، أو يحفظ له جميله، ورب العزة سبحانه الذي بيده ملكوت كل شيء وإذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون؛ يكون في عونك مقابل أن تكون في عون أخيك.

فتنفيس الكربة عن المكروب عمل في عونه، وستر عورة إنسان عمل في عونه، والتيسير على معسر عمل في عونه، فكأن هذه الجملة تذييل على كل ما تقدم، فما دمت في عون أخيك في كشف كربته، أو ستر عورته، أو تيسير أمره فالمولى سبحانه في عونك، وهل أتريد أن تتخلى عن عون الله؟ فهو طريق يُسِّر لك وفُتِح أمامك لتستجلب عون الله، وفي الحديث: (يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟!) .

والنصوص في هذا كثيرة يبين سبحانه وتعالى فيها أن من يحسن إلى عبد من عباد الله كأنه أسدى الجميل إلى لله كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:٢٤٥] ، والله في غنى، والله هو الذي أعطاك، لكن عليك أن تعطي عبده حتى لا يعاتبك: مرض عبدي جاع عبدي عري عبدي، كما في الحديث: (يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدتني ذلك عندي؟) ، أي: أكافئك وأجازيك.

فالذي يفعل الخير مع عباد الله متعامل مع الله، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:٢٤٥] .

وبهذا الوعد الصادق: (والله في عون العبد) ، تأتي آحاد الجزئيات، فمن اقترض وهو ينوي السداد فالله في عونه حتى يسدد، من تزوج بنية العفاف فالله في عونه.

وكانت أم المؤمنين ميمونة تقترض.

وهي في غنى عن القرض، فقيل: كيف تستدينين وليس عندك وفاء؟ قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عز وجل) .

فقوله:: (والله في عون العبد) ، فيه مقابلة عجيبة؛ فرب العزة سبحانه يكون في عونك مقابل أنك في عون أخيك، مثل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث:: (من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً) ، فاللهم صل وسلم وبارك عليه.

فهل هناك أسمى وأكمل وأطيب من هذه التوجيهات النبوية الكريمة، فبعد هذا التوجيه ينبغي أن يكون بعضنا عوناً لبعض، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:٢] ، ولا يكن بعضنا على العكس للآخر يكيد له ويضايقه وصدق صلى الله عليه وسلم في قوله:: (والله في عون العبد) ، حتى قالوا: إن كلمة العبد أعم من مؤمن ومسلم، فلو جاءك ذمي أو معاهد أو مشرك، وطلب منك العون على أمر دنيوي وعاونته فإن الله يعينك.

ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل كبد رطبة أجر) ؟ فإذا كان الأجر في الحيوان فكيف ببني الإنسان؟! لما سقت المرأة البغي الكلب لشدة عطشه رحمها الله.

والمرأة لما حبست الهرة فلم تطعمها ولم تتركها عذبها الله في النار.

إذاً: فالإنسان كيفما كان مشركاً أو كافراً أعنه في أمر الدنيا.

وأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه مر في المدينة فإذا برجل