للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل العلم والعلماء]

يأتي ختاماً لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ، ما معنى سلك؟ السلك: هو الخيط الصغير تسلكه في عين الإبرة.

(طريقاً) الطريق: فعيل من الطَّرْق.

والطَّرْق: الدق.

فالطريق تطرقه بقدميك.

فقال:.

(من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة) .

فإذا جئنا إلى جانب من العرض النبوي الكريم نقول: تلك الأبواب المتقدمة لا يستطيع إنسان أن يلجها كلها إلا عن طريق العلم.

وإن جئنا من جانب آخر قلنا: كلها طرق خير مفتحة، ولكن طلب العلم خير من ذلك كله؛ لأن طلب العلم أوسع أفقاً، ويستطيع طالب العلم أن ينتفع وينفع أكثر من أولئك جميعاً، ولذا جاء الحث على طلب العلم، وهذا باب واسع جداً، أوسع من تلك الأبواب المتقدمة.

وأُلِّفت التآليف في ذلك، وأحسن ما ألف في هذا لـ ابن عبد البر: (جامع العلم وفضله) ، وما من كتاب إلا وفيه بيان فضل العلم.

وأعلى قمة لشرف طلب العلم والعلماء هذا السياق الكريم، وهو قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:١٨] .

فمن الذي شهد؟ الله الذي شهد أنه لا إله إلا هو، فالشاهد الله، والمشهود عليه (أنه لا إله إلا هو) .

وَالْمَلائِكَةُ عطف على شهادة الله، والثالث أُوْلُوا الْعِلْمِ فيكفي شرفاً لأهل العلم أنهم ثالث ثلاثة في الشهادة على أعظم شيءً في الوجود، وهو وحدانية المولى سبحانه؛ لأن غير أهل العلم لا يعرفون ذلك، فلا يعلمون ولا يشهدون.

ويأتي قوله تعالى من باب المقارنة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩] .

فهل تستوي الظلمات والنور، أو الظل والحرور؟ فشرف العلم وطلبه باب واسع جداً لا يستطيع إنسان أن يوفيه في حديث أو حديثين.

ولكن نأتي بدعابة علمية، أو ببيان لطالب العلم في آثار تفضيل العلم، وهو أن الله سبحانه وتعالى كرّم كل فرد عالم في جنسه على عموم الجنس.

فالمولى سبحانه وتعالى حينما أخبر الملائكة أنه يستخلف آدم، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠] ، فالملائكة قالت: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} فلم يقل: أقدر.

ولم يقل: قادر.

وقال: أصنع ما أشاء بل قال:.

{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٣٠] ، فاحتج عليهم بالعلم.

وبعد ذلك قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:٣١-٣٣] فالقضية كلها ماشية في فلك العلم.

وبعد هذا كله أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد لآدم، فالله سبحانه أراد أن يبين شرف آدم المخلوق الجديد الذي كانوا يرونه من طين وصلصال وفخار، ولكن المولى نفخ فيه من روحه.

فبم ظهر فضل وشرف آدم على غيره، أو بم استحق أن تحييه الملائكة، أو يؤمر الملائكة أن تسجد إليه؟ بالعلم.

ثم نزل آدم إلى الدنيا فقال الله تعالى له: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٣٨] .

وقال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:٣٧] .

فسلك طريق الهدى وطريق العلم.

ثم نأتي إلى نبي الله سليمان وما أعطاه الله من الملك، فقد كان تحت يده من الجنود من الجن والإنس والطير ما لم يؤته أحد، فيأتي في موقف من المواقف ويستعرض هذه فقال لما حكى الله عنه: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:٢٠-٢٢] ، فحالاً جاء، فلم يعتذر عن غيابه، ولم يسأل ماذا قال عني؟ وكما -كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه- صاحب علم دنيوي جغرافي وحده قدراً يأتي ويتطاول به على نبي الله {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:٢٢] .

فذاك الهدهد الصغير يأتي ويقول لنبي الله سليمان: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ) ، فما قال: علمت ما لم تعلم.

بل قال: (أَحَطتُ) من الإحاطة، بعد أن كان الحكم عليه بالعذاب أو الذبح، لكنه جاء بسلطان العلم.

{قَالَ سَنَنظُرُ} [النمل:٢٧] ، أي: أؤجل الحكم حتى نتأمل، ونتروى {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:٢٧] ، فقدّم الصدق كأنه توجس من أنه غير صادق، ولا يتأتى للهدهد أن يتطاول على ملك وعلى نبي الله سليمان إلا وعنده بعض الشيء، فقال له: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا} [النمل:٢٨] ، فكان محكومنا عليه بالإعدام، وإذا بالحكم يوقف تنفيذه ويصبح سفيراً مفوضاً، {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:٢٨] ، وكانت السفارة موفقة، فبعد المفاوضة والمراسلات والمشاورات جاءت، وأسلمت لله رب العالمين.

فهذا الهدهد ذهب وأتى وقص عليه قائلاً -كما حكى الله تعالى عنه- {جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:٢٢-٢٤] ، فالهدهد يميز بين السجود لله وحده، وبين السجود للشمس والقمر من دون الله، ثم قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:٢٥] ، والمفسرون يقولون: هذا من كلام الهدهد اعترض عليهم أنهم لا يسجدون لله سبحانه، ويسجدون للشمس والقمر.

فالهدهد يدرك، وبفضل العلم الجغرافي الذي اكتسبه سلِم من القتل ومن التعذيب، وأصبح سفيراً مفوضاً بين سليمان وبلقيس.

وفي أول سورة المائدة يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ * وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:٣-٤] .

فالكلب إذا علمته الصيد فعند أن تزجره ينزجر -أي: يسمع الأوامر- إذا أمسك عليك أكلت مما صاد لك، والأسد وهو سلطان الوحوش لا يجوز أكل ما ترك من فريسة؛ لقوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة:٣] ، وكلها محرمة معطوفة على الميتة، فإذا أكل السبع -وهو سلطان الوحوش- ولم ندرك الصيد ونذكه فهو ميتة، وأما ما صاده الكلب المعلم فيجوز لنا أن نأكل، والفرق بينهما -مع فوارق الجنسين-: العلم.

فما سلك إنسان طريقاً يلتمس فيه علماً إلا سهل الله له طريقاً إلى الجنة.

وهذا الحديث يشعر بالرحلة في طلب العلم، وقد ألفت في ذلك الكتب.

وأبو الدرداء كان في البصرة، فجاءه شخص وسلم عليه، فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: جئت لحديث عندك.

قال: آلله! ما جاءت بك حاجة ولا تجارة؟ قال: لا -والله-، ما جاء بي إلا حرصي على أن أسمع حديثاً عندك.

قال: أبشر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) .

ونحن نعلم أن المولى سبحانه جعل سلوك طريق لطلب العلم قرين الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:١٢٢] ، فطائفة تذهب تقاتل، وطائفة تذهب تتفقه في الدين لترجع وتنذر قومها بما عملت.

إذاً فالنفر في طلب العلم كالنفر في الجهاد سواءً، وجاء الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (من أتى إلى مسجدي هذا لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) .

وسلوك الطريق يحصل بأية وسيلة كانت، وسواء أكان سلوك الطريق للرحلة والسفر، أم كان سلوك الطريق إلى الأستاذ أو المدرسة أو الجامعة.