للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خلاف العلماء في اعتبار الإكراه]

أما مسألة الإكراه فأكثر العلماء يقولون: الإكراه في الأقوال لا شيء فيها، ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: كل من أكره على قول شيء، وقاله مكرهاً فإنه مؤاخذ بذلك، حتى ولو أكره على قول الكفر، فمن تكلم بكلمة الكفر عومل معاملة المرتد ظاهراً، أما بينه وبين الله فعلى ما في نيته مع الله.

وقال الجمهور: المولى سبحانه يقول في ذلك: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦] ، فقال أبو حنيفة: هذا في أول الإسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بمكة في الحجر، فقالوا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ أي: تسأل الله النصر لنا، وذلك عندما كانوا يعذبون، فكان المشركون يعذبون ضعفة المسلمين، فقالوا: (يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن من كان قبلكم كان يؤتى بالرجل من قبلكم، وتحفر له الحفرة، ويؤتى بالمنشار، فيوضع على مفرق رأسه فينشر حتى يشق نصفين ولا يرجع عن دينه) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: هذا يورده رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المدح؛ فلا يجوز للإنسان أن يترخص بكلمة الكفر؛ لأن من كان قبلنا كانوا ينشرون بالمناشير فلا يرتدون عن دينهم، وجاء في حديث أبي ذر من ذكر وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم العشر الطويلة قال: (ولا تشرك بالله وإن قطعت أو أحرقت) ، قال أبو حنيفة رحمه الله: هذا نهي من رسول الله، وتحذير له من أن يتكلم بكلمة الكفر، ولا يترخص.

وأجاب الجمهور: أنه في بدء الأمر في مكة كان واجباً عليهم أن يصبروا ويتحملوا، أما بعد ذلك فإذا نطق بكلمة الكفر فإنها لا تضر الإسلام ولا المسلمين، وقد أباح الله سبحانه وتعالى ذلك بنص الآية الكريمة، فالآية مقدمة على ذلك الحديث، ولا سيما إذا كان الحديث متقدماً، ونزلت الآية بعده، والآية أثبت وأقوى دلالة، وعلى هذا الجمهور يقولون: من أكره على كلمة الكفر، فقالها وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا شيء عليه، وهو ما يشهد له كتاب الله، فإنه قد بيّن {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:١٠٦] ، فإذا كان يقولها وهو منشرح الصدر فهذا كافر حقاً بلا إشكال، أما إذا قالها مكرهاً فلا إثم عليه، وجاء عن ابن مسعود أنه قال: لو أن كلمة تنجيني من سوطين لقلتها، فقالوا: هذا ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: لو أن كلمة يكون فيها تعريض بديني وتنجيني من السوطين لقلتها، اعتماداً على ما جاء في القرآن الكريم في أصل العقيدة: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل:١٠٦] .

وهكذا في اليمين: لو أن إنساناً أكره أن يحلف يميناً بالله، أو يميناً بطلاق، فما حكم هذه اليمين؟ وما حكم المحلوف عليه؟ جاء عن بعض السلف أن رجلاً كان عنده متخف من سلطان ظالم، فجاء أعوان السلطان وسألوه عنه، فقال: ما رأيته، قالوا: أتحلف بالله، فحلف بالله أنه لا يعلم عنه، وقال: لأن أحلف بالله كاذباً وأنجي مسلماً خير من أن أسلم مسلماً للقتل ظلماً.

وكان بعض الأمراء له من يتتبعون الأخبار، فجاءه شخص وقال: إن بمجلس فلان -وهو من سلف الأمة من تابعي التابعين- أناس يتكلمون عنك في مجلسه، فأرسل إليه، فقال: ما حصل هذا، قال: أتحلف بالله؟ فحلف بالله، فرجع السلطان على من أخبره وجلده سبعين سوطاً، فجاء ذاك المخبر إلى ذاك الشخص وعاتبه؛ لأن الوالي ضربه سبعين سوطاً، فقال له: لأن تضرب سبعين سوطاً خير من أن تسلم مسلماً للقتل ظلماً.