للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اجتماع مقتضيات المحبة في رسول الله صلى الله عليه وسلم]

يقول القاضي عياض: وقد اجتمعت تلك الأمور الأربعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلا يوجد نفع أعظم مما جاءنا به صلى الله عليه وسلم فإنه عرّفنا بربنا عز وجل.

ومعرفة العبد بربه لا يوازيها شيء، فأنت عرفت ربك وخالقك الذي خلق السماوات والأرض، وعرفت رب العالمين، فمثلاً لو أن شخصاً اكتشف جهازاً ما أو اكتشف أي شيء مجهول، أو جاء للعالم بأي اكتشاف جديد، وعرف ما لم يعرفه الناس؛ تطاول إلى السماء، وأنت تعرف خيراً مما عرف؛ لأنك تعرف رب العالمين عز وجل.

ومن النفع الذي جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءنا بما يدخلنا الجنة فعرّفنا طريق الجنة، فأيُ شيء يوازي الجنة؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، وعرّفنا بالإسلام، وعرفنا بالعبودية لله، وكيف نعبد ربنا ونتقرب إليه، وعرّفنا بالملكوت الأعلى كله.

ودرأ عنا كل شر في حياتنا، فصان وعصم دماءنا، وأموالنا، وصان فروجنا وأعراضنا، وكفَّ بعضنا عن بعض، كل شر في الدنيا سد طريقه عنا، وسد عنا أبواب النار، وبيّن لنا الطريق الذي به نسده.

ولذا لما خطب القوم قال: (ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد بينته لكم) ، فماذا نريد أكثر من هذا؟ والترجمة القرآنية لرسول الله تقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة:١٢٨] ، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي: يشق عليه ما يلحقكم من عنت ومشقة، وحريص على جلب الخير لكم، ثم يتوج ذلك بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ؛ عليه الصلاة والسلام! القسم الثالث: جمال الخِلقة، يقول بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله ما ملأت عيني من محمد في جاهلية ولا إسلام، أما في الجاهلية فكراهية أن أنظر إليه، وأما في الإسلام فحياءً من أن أنظر إليه) ، سبحان الله! فهذا كما قال القائل: أهابك إجلالاً وما بك سلطة علي ولكن ملء عين حبيبها يهابها وهي ضعيفة ليس لها سلطة عليه، ولكن من شدة وفرط المحبة، وهنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: والله لو طُلب من أحدنا أن ينعت رسول الله لما استطاع، يقولون: ما كنا نستطيع أن نملأ أعيننا منه حياءً وإجلالاً.

وأما جمال الخُلُق فلو اجتمع العالم كله من أوله إلى آخره فلن يستطيعوا أن يصفوا أخلاق رسول الله بما وصفها الله وجعلها قرآنا يتلى ونتعبد به: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] ، تقول أم المؤمنين عائشة لما سُئلت كيف كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: (أتقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن) ، يعني: يأتمر بأوامره، وينتهي بنواهيه، ويعمل بمكارمه ومحاسنه وآدابه.

إذاً: لو قارنا الولد والوالدين مع دوافع المحبة التي ذكرنا فسنجد الفرق العظيم، صحيح أن الوالدين لهما الحق الثاني بعد الله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣] حتى في حالة الكفر: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا} [لقمان:١٥] سبحان الله! لم يقل وعاشرهما، بل قال: وصاحبهما، أي: اجعلهما كصديق، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:١٥] وذلك لأنهما تسببا فيما يتسبب فيه أي زوجين من الحيوانات، ورزقهما الله من عنده هذا الولد.

وأما الولد فقد قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:١٥] .

وأما المال فقد قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:٤٦] ، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:٧] .

إذاً: الناس أجمعون لن ينفعوا شيئاً (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) .