للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الخصلة الثانية: جعل الله الأرض مسجداً وطهوراً لنبيه وأمته

الخصلة الثانية هي الشاهد من باب التيمم، وهي قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) .

قوله: (وجعلت لي الأرض) يعني: وجه الأرض.

قوله: (مسجداً) المسجد هو الموضع الصالح للسجود عليه والصلاة فيه.

قوله: (طهوراً) : والطهور معناه ما يتطهر به.

يعني: أن الله تعالى فضل هذه الأمة ونبيها بأن أباح لهم أن يصلوا إذا أدركتهم الصلاة في أي بقعة، قد كان الأمم قبلنا لا يصلون إلا في كنائسهم وصوامعهم وبيعهم ومعابدهم وأديارهم، فلا يصلي أحدهم إلا في ديره الخاص به أو نحو ذلك، ولكن الله تعالى وسع على هذه الأمة، فالمسافر إذا أدركته الصلاة فلا يؤخرها، بل يصليها في أي بقعه من الأرض الطاهرة التي ليس فيها شيء مما نهي عن الصلاة فيه، إذ الأصل أن كل بقعة من الأرض تصلح أن تكون مصلى للمسلم إذا أدركته الصلاة.

سمعت أن بعض الناس يحتج على جواز الصلاة في البيوت وفي الأسواق، ولكن ليس في هذا حجة، إنما الحديث حجة في أن المصلي إذا أدركته الصلاة وليس هناك موضع مخصص له، فإنه يصلي في تلك البقعة، أما إذا كان هناك مواضع للصلاة كالمساجد المبنية المهيأة لها، فإن المساجد إنما بنيت لأجل عمارتها بطاعة الله تعالى، والكلام على هذا ليس هذا موضعه.

وأما كون الأرض طهوراً فمعناه أن من فقد الماء فإنه يتطهر بالتراب كما في آية التطهر به، وهي قول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:٦] ، إلى قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:٦] .

سمى النبي صلى الله عليه وسلم الأرض طهوراً؛ لأن التيمم بها يرفع الحدث، والحدث هو ما يقوم بالبدن عند وجود ناقض من النواقض، فإذا انتقض وضوء الإنسان ولم يجد ماءً جاز له أن يتيمم بالتراب، ويقوم ذلك مقام الماء، توسعة من الله تعالى، ولم يكن ذلك في الأمم قبلنا، فإنهم لا يرتفع حدثهم إلا الماء ولا يباح لهم أن يتيمموا بالتراب، فعلم الله المشقة التي تنال الأمة لأجل فقد الماء فأباح لهم أن يتيمموا وأن يحبسوا ما معهم من الماء لطعامهم وشرابهم وغيرها.

ولكن لا ينبغي التساهل في هذا غاية التساهل، فإن كثيراً من الناس يتيممون والماء قريب منهم أو معهم، فالماء إنما جعل ليطهر البدن طهارة ظاهرة، والماء لا شك أنه يرفع الأحداث ويزيل الأخباث ويطهر النجاسات، والتراب إنما هو مبيح للصلاة ورافع للحدث رفعاً مؤقتاً، وبشرط أن لا يوجد ماء؛ لقوله تعالى في الآية الكريمة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:٦] ، فإذاً لا يباح التيمم مع وجود الماء أو مع القرب منه أو مع توافره وتيسره.

ذكر لي كثير من الإخوان أنهم خرجوا مع أناس والماء معهم كثير، حيث كان معهم سيارات محملة بالماء أو خزانات أو نحوها ملأى بالماء ومع ذلك يتيممون، هؤلاء لا يجوز لهم التيمم والحال هذه؛ لأن التيمم إنما شرع عند فقد الماء وهؤلاء معهم المياه التي في السيارات وفي الأواني الكبيرة، ولو كانوا سيجلسون مثلاً أربعة أيام أو خمسة أيام، ولكن ما دام معهم هذا الماء بهذه الكثرة فلا يحل لهم التيمم.

وذكر أنهم يغسلون الأواني غسلاً بليغاً، فإذا أكلوا أو شربوا في إناء فإنهم يصبون عليه ماءً كثيراً، وإذا أكل أحدهم وغسل يديه غسلهما بماء كثير يتجاوز ما يتوضأ به الإنسان أو يغتسل به، ومع ذلك يتيممون إذا حضر وقت الصلاة، فلا شك أن هذا خطأ وأنه توسع في شيء ليس فيه هذا التوسع.

كما ذكر أيضاً أن معهم عدداً من السيارات، وأن المياه قد تكون قريبة منهم، أو البلاد التي هم حولها قد تبعد عنهم نصف ساعة أو ساعة بالسيارة أو ما أشبه ذلك، وأنهم متى بدا لأحدهم غرض أو شراء شيء كنعل مثلاً أو ملح أو كبريت أو ما أشبهه حركوا لأجله سيارة، فإذا كان كذلك فباستطاعتهم إذا قل عليهم الماء أن يرسلوا سيارة ويأتوا بماء في براميلهم ولا يكون عليهم حينئذ نقص، ولو غابت السيارة يوماً من أجل الإتيان بالماء، فإذاً لا يجوز لهم التيمم.

قد عرفنا بعضاً من المسافرين يحملون معهم الماء ويتوضئون به إذا كان في إمكانهم أن يصلوا إلى الماء بعد ثلاث ساعات، مع أنهم يسيرون على الأقدام وعلى الرواحل، وأدركنا أيضاً بعض أهل البوادي يرسلون إلى الماء لأجل الوضوء يوماً ذهاباً ويوماً إياباً، فيرسلون الراوي ليرتوي لهم فيغيب عنهم يومين، والماء في ذلك الوقت في غاية الصعوبة، وإنما يؤتى به في القرب، ومع ذلك لا يتيممون.

فإذاً: لا ينبغي التوسع في مثل هذا، بل إذا خرج جماعة للنزهة وكان معهم هذا الماء فليستعملوه في الوضوء ولا يتيمموا والماء معهم بهذه الكثرة، أما إذا كانت المسافة طويلة أو كان هناك صعوبة في تحصيله أو يوجد ولكن بثمن رفيع، فحينئذ لا بأس بأن يعدلوا إلى التيمم؛ لأنهم معذورون في ذلك.