للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى الصلاة الإبراهيمية وحكمها وصفتها]

أما التشهد الأخير الذي هو بعد الركعة الرابعة في الظهر وكذلك في العصر، وبعد الثالثة في المغرب، وبعد الرابعة في العشاء، وبعد الركعة الثانية في صلاة الصبح، وبعد كل ركعتين في التنفلات، فإنه يزيد فيه بالأدعية التي جاءت في بعض الروايات؛ وذلك لقوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، أو ما شاء) فهذه الأدعية مناسبتها أو محلها بعد التشهد الأخير، أي: إذا تشهد التشهد الأخير أتى بما يحضره من الدعاء.

ولكن في التشهد الأخير الذي يعقبه السلام، يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي في حديث كعب؛ وذلك لأن الله تعالى أمر بهما معاً في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:٥٦] فلا بد من الإتيان بهما، فيكره الاقتصار على السلام وحده، أو على الصلاة وحدها، لا بد إذا قلت: اللهم صل على محمد أن تقول: وسلم؛ لأن الله قال: (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا) ، فلذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة والسلام عليه، فالصحابة يقولون: (قد علمنا كيف نسلم عليك) ، أي: علمتنا بقولك: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وبقي أن تعلمنا كيف نصلي عليك، ما صفة الصلاة عليك؟ والصلاة عليه يدخل فيها كل دعاء.

روي عن بعض الصحابة أنه قال: (يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك، فهل أجعل لك ربع الصلاة؟ فقال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك ثلث الصلاة؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك نصف الصلاة؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: فإني أجعل لك كل صلاتي، أو جميع صلاتي، قال: إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك) والمراد أنه يجعل له دعاءه يقول: بدل ما أدعو بالمغفرة وأدعو بسؤال الجنة أشتغل بالصلاة على محمد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، أجعل ذلك هو الدعاء كله.

قوله: (صلاتي) يعني: دعائي، فجعل ذلك سبباً لغفران الذنوب، وكف الهموم.

إذا عرف العبد فضل هذه الصلاة فإنه قد ورد فيها فضائل كثيرة، ذكر جملة كثيرة منها ابن كثير عند تفسير هذه الآية في سورة الأحزاب: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:٥٦] وأفردت أيضاً بالتأليف والتصنيف في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وذكرت فيها الأحاديث الواردة في ذلك وفضيلتها، ويذكرها ويتعرض لها الخطباء في خطبة الجمعة؛ وذلك لأنهم مأمورون بها في يوم الجمعة، ولها مواقيت معروفة ليس هذا موضع تعدادها.

وهذه الصلاة هي قولنا: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) إلى آخرها، لا شك أن هذه الصلاة دعاء، ولكن ما هو هذا الدعاء؟ من العلماء من قال: الصلاة رحمة، وهذا قول مشهور عند الفقهاء؛ وذلك لأنهم قالوا: إنه قال: (كما صليت على آل إبراهيم) ، والصلاة الإبراهيمية هي قوله تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} [هود:٧٣] عبر عن عن الصلاة بالرحمة، ثم عبر عن البركة بالبركة نفسها في قوله: (وبارك على محمد) إلى آخره، فأفاد أن الصلاة هي الرحمة.

ومن العلماء من قال: الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، هكذا رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية، وهذا هو الأقرب، أي: أننا إذا قلنا: اللهم صل عليه، فمعناه: اذكره بين ملائكتك بالفضل، وإذا صلينا على إنسان فقلنا: عليك صلاة الله، فمعناه: أن يذكرك الله في الملأ الأعلى، مثل قوله: صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول: من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) .

هذه الصلاة تسمى الصلاة الإبراهيمية؛ وذلك لأنه أمر بأن يصلى عليه كما يصلى على آل إبراهيم، ولا شك أن المراد بقولك: (اللهم صلِّ عليه كما صليت على آل إبراهيم) أي: كما أنك ترحمت على آل إبراهيم وباركت عليهم، وليس المراد أن آل إبراهيم أفضل منه، بل إننا نطلب أن يحظى بصلاة من الله، كما أن آل إبراهيم حظوا بصلاة من الله، فصلت عليهم الملائكة بقولهم: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:٧٣] ، ولهذا ذكر هذين الاسمين في آخر هذه الصلاة.

وقوله: (وبارك على محمد) المراد: أكثر عليهم من خيرك ومن فضلك وجودك وامتنانك، وقد ذكرت البركة أيضاً في السلام في قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) ، فالبركات هي الخيرات الكثيرة.

والمعنى: أنك تبارك في أعماله وفي أقواله، وتبارك له فيما أعطيته كما ورد في دعاء القنوت: (وبارك لنا فيما أعطيت) ، وتبارك في حسناته بأن تضاعفها، فيدعى لكل مسلم بهذه البركة التي هي كثرة الخير، وهي لا نهاية لها.

فإذا علمنا معانيها عرفنا حكم هذه الصلاة، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جعلها كثير من العلماء ركناً في التشهد الأخير، واستحب كثير منهم في التشهد الأول أن يأتي بها أو ببعضها، ولكن الصحيح أنها إنما تشرع في التشهد الأخير؛ لأنه الذي يطول فيه الجلوس، وقد جعلها بعضهم من الواجبات بحيث إن من نسيها فإنه يسجد للسهو، وجعلها كثير من الأركان بحيث لا تتم الصلاة إلا بها، ولعل هذا هو القول الراجح.

ويكفي منها أن تقول: (اللهم صل على محمد) ، وقال بعضهم: لا بد أيضاً من الصلاة على آله (وآل محمد) ، وإذا أتيت بذلك فالبركة وما بعدها من السنن، وكذلك الأدعية، وستأتينا الأدعية فيما بعد، وهي التي تقال بعد الشهادتين وبعد الصلاة الإبراهيمية.

قد تقدم التشهد الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وهو قوله: (التحيات لله) إلى آخره، وهذه تقرأ في التشهد الأول وتقرأ في التشهد الأخير كما هو معروف، وتقدم لفظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله: (اللهم صل على محمد) إلى آخره، وهذه يؤتى بها في التشهد الأخير، واستحب بعض المشايخ أن يؤتى بها أو ببعضها في التشهد الأول، فالواجب في الصلاة أن يأتي بالتحيات وأن يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

أما التشهد الذي هو: (التحيات لله) إلى آخره فالجمهور على أنه ركن لا تصح الصلاة إلا به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم الصحابة كما يعلمهم السورة من القرآن، وقال: (إذا جلس أحدكم في التشهد فليقل: التحيات الله) إلى آخره، وقال: (لا تقولوا: السلام على الله ولكن قولوا: التحيات لله) فكل ذلك يستدل به على أنه ركن، وأن من تركه لم تصح صلاته، فلو جلس وسلم قبل أن يقرأه بطلت صلاته إذا كان متعمداً، وإذا كان ساهياً رجع وأتى به وسلم بعدما يسجد للسهو، وكل ذلك دليل على أهمية هذا التشهد.

أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فذهب جمع من العلماء منهم الإمام أحمد إلى أنها ركن أيضاً كما أن التحيات ركن، بمعنى: أنها لا تصح الصلاة إلا بها، فمن تركها عمداً بطلت صلاته، ومن تركها سهواً رجع وأتى بها إذا تذكر ذلك، فإذا سلم قبل أن يقول: (اللهم صلِّ على محمد) إلى آخره فلا صلاة له.

والقدر المجزئ كما ذكرنا سابقاً أن يقول: (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد) .

وأجاز بعضهم أن يقتصر على الصلاة عليه دون آله، والبقية سنن، يعني قوله: (وبارك على محمد) إلى آخره من السنن، إن أتى بها فمستحب، وإلا فلا حرج.