للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مميزات صلاة الكسوف]

وهذه الصلاة التي شرعت تميزت بميزات خاصة، منها إطالة الأركان، حيث إن القيام يكون طويلاً -أعني القيام الأول-، حتى قال بعضهم: إنه بقدر سورة البقرة.

وسورة البقرة طويلة، والقيام الثاني أقل منه، أي: بقدر سورة آل عمران، وسورة البقرة جزءان وقريب من النصف، وسورة آل عمران نحو جزء وربع أو جزء وثلث، وبكل حال فهي أقل من سورة البقرة بكثير، فجزء وربع أقل من جزئين وزيادة.

فالقيام الأول في الركعة الثانية لو أطاله -مثلاً- بقدر سورة المائدة فهي أقل بكثير من سورة آل عمران، وبعد ذلك إذا قرأ سورة الأنفال في القيام الأخير فلا شك أن هذه القراءة تستدعي ساعتين أو أكثر من ساعتين، سيما مع الترتيل، وكان عليه الصلاة والسلام يرتل القراءة، وسيما مع إطالة الأركان، فيذكرون أنه إذا ركع أطال الركوع، فيمكن أن يكون الركوع في ربع ساعة أو قريباً من ذلك، والسجود كذلك، ففي كل سجدة من أربع سجدات قد يمكث فيها ربع ساعة، أو على الأقل عشر دقائق ونحو ذلك، وهكذا الرفع الذي قبل السجود، وهكذا الجلسة بين السجدتين قد يجلس فيها -أيضاً- هذا المقدار، فلا شك أن ذلك يستدعي مدة طويلة، فيدل على أنه أطالها، ولأجل ذلك ذكروا أن الشمس قد انخسفت ولم يبق لها ضوء لما حصل الكسوف، ثم لما انتهى من الصلاة كانت الشمس قد تجلت، قد تجلى ذلك الانكساف الذي بها.

ولا شك أنها عادة إذا خسفت -والقمر كذلك- قد تمكث ثلاث ساعات، وربما أربع ساعات أو ثلاثاً ونصفاً، فيدل على أنه أطال أركان هذه الصلاة، وأنه مدها مداً طويلاً، وهذا في الروايات التي فيها أنه لما حصل الكسوف كرر الركوع، أي: ركع ثلاث مرات، أو ركع أربع مرات، ولعل ذلك لمعرفته أن ذلك الكسوف يمتد ساعات، فأراد أن يصلي إلى أن يزول الكرب، ولأجل ذلك ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم) .

فاستمر على هذا حتى تجلت الشمس وانكشف الكسوف، فلما انكشف سلم، أو علم أنه قد انكشف أو قارب الانكشاف وانقضت صلاته، وبعد صلاته عليه الصلاة والسلام حدثهم ببعض ما جرى له، وذلك لأنه في تلك الصلاة رأوا منه أشياء أنكروها، رأوا منه أنه تقدم وهو في الصلاة، ولما تقدم مشوا وراءه إلى أن وصل إلى قرب الجدار، ثم رأوه بعد ذلك تقهقر-أي: مشى وراءه- فتقهقروا وراءهم حتى ردهم الجدار الخلفي، فأخبر بأنه رأى الجنة، وأنه أراد أن يتناول منها، وذلك هو الذي حمله على أن تقدم، وأنه رأى النار، ثم لما رآها تقهقر خوفاً من لهبها، وذلك لما رأوه مشى وراءه.

وأخبرهم في تلك الخطبة أنه رأى أشياء في النار، رأى فيها المرأة التي عذبت في هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً، لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، فرآها تعذب بها، ورأى سارق الحاج الذي هو صاحب المحجن الذي يعلق فيه الأمتعة ويجرها، فإذا فطنوا له قال: تعلق به المحجن دون قصد.

وإذا لم يفطن له أخذه، ورآها فيها عمرو بن لحي بن خندف الذي غير دين إبراهيم عليه السلام، رآه يجر قصبه في النار، وهذا دليل -أيضاً- على أنه عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة خطبهم أو ذكرهم تذكيراً يفيدهم ما يعملون وما يفعلون في هذه الصلاة، وكذلك ما يجعلهم يخافون.

وهذه المكاشفات التي حصلت له، والتي فيها هذا التخويف لا تحصل لغيره؛ لأنها من خصائصه، كونه كشف له عن الجنة، وكشف له عن النار، لا يحصل هذا إلا له عليه الصلاة والسلام، لذلك أخبر بما رآه، وعلى كل حال فهذه الصلاة التي هي صلاة الكسوف من ذوات الأسباب، تفعل عند وجود سببها، ولا تفعل إلا عند كسوف الشمس أو كسوف القمر.