للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث غنائم غزوة حنين]

وأما حديث المازني فكان ذلك في غزوة حنين لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة وغنم غنائم وأموالاً من هوازن، ورجع من الطائف بعدما حاصرها أربعين يوماً، بعد ذلك قسم تلك الغنائم، وأعطى رؤساء القبائل، فأعطى الكثير منها لرؤساء القبائل كأشراف قريش وبعض أشراف العرب، فأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى العباس بن مرداس مثل ذلك أو نحوه، وأعطى أبا سفيان كذا، وأعطى الحارث بن هشام، وأعطى صفوان بن أمية ثم أعطاه ثم أعطاه، وأعطى رجلاً غنماً بين جبلين، ولم يعطِ الأنصار.

وكان الأنصار رضي الله عنهم ممن قاتل معه قتالاً شديداً، وممن دافع، وممن أبلى بلاءً حسناً، ولم يعطهم شيئاً من تلك الغنيمة، ووكلهم إلى ما جعل الله في قلوبهم من الإيمان، فروي أنهم -أو بعضهم- أنكروا ذلك وقالوا: رسول الله يعطي صناديد قريش وسيوفنا تقطر من دمائهم، ولا يعطينا شيئاً! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجمعهم، أو جمع جماعة منهم في قبة، فخطبهم بهذه الخطبة التي يذكرهم فيها فضل الله عز وجل، فأخبرهم بأنه وجدهم ضلالاً -يعني: ضالين- مخطئين الطريق، فدلهم الله به وهداهم، ووجدهم متفرقين متقاتلين متناحرين فهداهم الله به وجمعهم بعد ذلك التفرق، ووجدهم عالة -يعني: فقراء- في غاية من الإعواز فأغناهم الله به بما فتح عليهم، يذكرهم بذلك، وكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن.

أي: المنة لله، فالله هو الذي له المن وله الفضل، ورسوله كذلك، فلا منة لنا.

ثم إنه استجوبهم وقال: (لو شئتم لقلتم: جئتنا كذا وكذا) أي: لو شئتم لذكرتم ما منكم وما لكم من الأثر، وفي بعض الروايات أنه قال: (لو شئتم لقلتم جئتنا وحيداً فقويناك، وجئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا مخذولاً فنصرناك) ولكن لم يقولوا ذلك، بل قالوا: المنة لله ولرسوله.

ولما ذكرهم بذلك أخذ يذكر لهم فضائلهم فقال: (أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟) فما تذهبون به خير مما يذهب به الناس، الناس إنما ينصرفون بهذا المال وبهذا المتاع الدنيوي الذي هو عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، وأنتم تحوزون الرسول إلى رحالكم، فهذا خير وأفضل مما أعطيه هؤلاء الناس.

يقول في هذا الحديث: (لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار) يعني: لولا أنني أحتسب أجر الهجرة لعددت نفسي أنصارياً، وهو صلى الله عليه وسلم مهاجر، والمهاجر يبتغي أجر الهجرة، فيقول: إنني أبتغي أجر الهجرة مع المهاجرين، فتسميت مع المهاجرين لأني مهاجر، ولولا ذلك لقلت: أنا من الأنصار.

يعني: أنا أنصاري.

فذكرهم بأنه منهم، إلا أنه يتسمى بالهجرة لأجل أن يحصل على أجر المهاجرين.

كذلك يقول: (الأنصار شعار والناس دثار) يعني أنهم مقربون إليه، والشعار: هو اللباس الرقيق الذي يلي الجلد.

والدثار: هو اللحاف الذي يكون فوقه.

ومعلوم أن الإنسان لا يلبس مما يلي جلده إلا اللباس الرقيق اللين، أما الخشن كالصوف الغليظ والشعر وما نسج منه ونحو ذلك فإنه يجعله أعلى حتى لا يؤذيه بشعره أو بخشونته، فشبه الأنصار بأنهم أقرب إليه بمنزلة الشعار الذي يلي الجسد، وبقية الناس حتى بني عمه وحتى أهل مكة بمنزلة الدثار الذي هو أعلاه.

يقول في هذا الحديث: (إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) .

وقد وقع ذلك، حيث إن الناس بعده لما كانت الولاية في بني أمية وفي غيرهم استأثروا بالأموال، واستأثروا بالولايات، واستأثروا بالمناصب، ولم ينقل أنهم يولون أنصارياً، لا ولاية مال ولا جباية ولا إمارة ولا غير ذلك، بل استأثروا عليهم بهذه الولاية.

وقوله: (ستجدون بعدي أثرة) ، يعني: أن يستأثر الناس دونكم بالولايات وبالمناصب وبالأموال ونحوها، فاصبروا على ما ترون حتى تلقوني على الحوض، وعدهم بذلك، ولا شك أن ذلك منه تخفيف عليهم لما أصابهم، وحث لهم على الصبر، فرضوا بذلك وقنعوا.