للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خلاف الصحابة في التحلل من الحج]

قد ثبت تحلل الصحابة عن نحو سبعة عشر صحابياً، كلهم رووا أنه صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي أن يجعل إحرامه عمرة، وأن يفسخ ذلك الحج الذي أحرم به، وذهب إلى ذلك الإمام أحمد، وخالفه في ذلك الشافعية ونحوهم، واختاروا ما ذهب إليه عمر، من أنه لا يجوز التحلل، ولا يجوز فسخ الحج إلى عمرة، واستدلوا بالآية، وهي قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} [البقرة:١٩٦] ، قالوا: لابد أن يكون الحج تاماً، فالذين ذهبوا إلى البقاء على الإحرام هم أبو بكر وعمر وعثمان، وكانوا يأمرون بالبقاء على الإحرام وينهون عن التحلل، وخالفهم في ذلك بعض الصحابة كـ ابن عباس رضي الله عنهما، فكان يلزم بالتحلل لمن أحرم مفرداً أو قارناً، يلزمه بأن يتحلل، وأن يجعل إحرامه بعمرة، فقيل له: إن أبا بكر وعمر ينهيان عن التمتع! فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!! يقول: إن اجتهاد أبي بكر وعمر يخصهما، وإنه نظر نظراهُ واجتهاد اجتهداه، ولكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بأن تقدم.

ولكن مع ذلك نقول: رأي أبي بكر وعمر وعثمان ذهب إليه مالك والشافعي ونحوهما، أن من أحرم لا يتحلل، ورأي ابن عباس ذهب إليه الإمام أحمد، وقال: إنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي تمناه، فذهب إليه هذا الإمام لقوة الأدلة ولكثرتها، ومع ذلك الكل على حق وعلى صواب، فالشافعية لا يبطلون إحرام من تمتع، ولا من فسخ الحج إلى عمرة، ولا يضللونه، وكذلك الحنابلة لا يضللون من بقي على إحرامه ولا يخطئونه، هذا هو القول المختار.

لكن قد ذهب بعض العلماء إلى وجوب فسخ الحج إلى العمرة، ورجح ذلك ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، واختار وجوب التحلل والإلزام به، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه أن يتحللوا قال له بعضهم: (أرأيت عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد) .

ومما استدل به حديث عمران بن حصين الذي تقدم، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالمتعة -يعني: متعة الحج-، وأن الله تعالى أمر بها في قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:١٩٦] ، فما دام أنها وردت في القرآن، وفعلها الصحابة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد أن يعترض عليها، وذكر أن عمر رضي الله عنه إنما نهى عنها اجتهاداً اجتهده ورأياً رآه، وهذا معنى قوله: (قال رجل برأيه ما شاء) بعدما ذكر أنهم فعلوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن ينسخها، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، فبقيت من السنة، فلماذا نتركها ما دام أنه لم ينزل ما ينسخها، إنما عمر هو الذي نهى عنها لمجرد رأي رآه ولاجتهاد اجتهده.

وعلى كل حال فإن أفضل الأنساك الذي نختاره -إذا لم يكن الإنسان ساق الهدي- أن يحرم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وأنه إذا أحرم مفرداً وقدم مبكراً أن الأفضل له التحلل، وأما إذا كان معه الهدي فإن عليه أن يحرم بالقران أو بالإفراد، ولا يتحلل حتى ينحر هديه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من قدم متأخراً في اليوم الثامن -مثلاً- أو مساء اليوم السابع فالأفضل له أن يبقى على إحرامه إذا كان مفرداً أو قارناً؛ إذ ليس هناك مدة يتمتع فيها، فما بقي إلا ساعات قليلة حتى يحرم الناس بالحج، فيبقى على إحرامه والحال هذه، وإذا اختار التحلل أو اختار إتمام العمرة فلا مانع من ذلك، والأمر فيه سعة.