للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى الحجر]

الأصل في الحجر على المفلس ما روي: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان شاباً يحب كثرة الإنفاق وكثرة الصدقة والتبرع، فكان يستدين ويقترض حتى كثر الذين يطالبونه، ولما كثروا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتسامحوا عنه، ولو تركوا أحداً لأجل أحدٍ لتركوا معاذاً لأجل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ذكروا أنهم يطالبونه بأموال هم بحاجةٍ إليها، وأن بعضها مال أيتام، فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بدّاً من الحجر عليه، ومنع كل أحد أن يبيع منه أو يشتري منه، ثم جمع أمواله التي يمكن أن يستغني عنها، وباعها وأعطى الغرماء بعض حقهم، وقال لهم: (ليس لكم إلا ذلك) ، ثم أرسله إلى اليمن كعامل لينجبر ما حصل عليه، وليصيب من سهم العاملين على الزكاة.

والحاصل: أن الحجر: هو أن يمنع الإنسان من التصرف ببيع أو شراء فيما يملكه من المال، ثم بعد ذلك يباع ويصفى ويقسم على الغرماء، فإذا وجدنا أن ماله بقدر ديونه أو أكثر من ديونه فإنه لا يحجر عليه، ولكن يؤمر بأن يوفي ديونه.

وإذا لم يوجد له مال أصلاً، وعليه ديون، وليس له ما يوفيها به، ولا يملك شيئاً، فمثل هذا عاجزٌ، وليس لأحد أن يشدد في طلبه، بل يجب إنظاره، وهو المذكور في قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:٢٨٠] ، والذي لا يقدر على وفاء شيء من دينه فلا يحجر عليه؛ لأنه لا مال له حتى يحجر عليه، وإنما يحجر على الذي له مالٌ أقل من الديون الحالة المطالب بها.

فهذه الأموال التي عنده التي يحجر عليه فيها هي أموالٌ اكتسبها أو اشترها بنقدٍ مثلاً، أو ربح بها أو استغنى عنها، وهي من جملة ما يملكه، فمثلاً: إذا كان عنده عقار، وقد أوفى ثمنه، فإنه يباع ويقسم ثمنه، وإذا كان عنده دواب كبقرٍ أو غنمٍ أو نحوها، وقد أوفى ثمنها أو بعض ثمنها، فإنها تباع إذا لم يكن بحاجةٍ إليها، ويترك له ما هو مضطر إليه، فيترك له البيت الذي يسكنه، والدابة التي هو في حاجة إلى لبنها لقوت أولاده، ويترك له آلته التي يعمل بها، فإن كان عنده سيارة أجرة فلا تباع؛ لأنه يكتسب عليها، وإن كان له حرفةٌ تركت آلة حرفته، كماكينته التي يعمل عليها مثلاً، أو التي يخيط عليها إذا كان خياطاً، أو التي يغسل عليها إذا كان غسالاً مثلاً، أو آلة حدادة، أو آلة نجارةٍ، أو آلة خرزٍ، أو آلة بناءٍ، أو ما أشبه ذلك، هذه تبقى له حتى يتكسب ما يوفي بقية ديونه، ويتكسب ما يقوت عياله وهكذا.

ولا يجوز أن يتمادى في الإنفاق ويتمادى في الإسراف وأهل الديون يطالبونه بحقوقهم، وقد ذكر العلماء أنه إذا كان عنده شيء لا يستحقه كله، فإنه يباع ويشترى له بقدره، فإذا كان له سيارة قيمتها سبعون ألفاً، فإنها تباع ويشترى له سيارةٌ قيمتها عشرون أو خمسة وعشرون؛ لأنه فقير، وهذه التي تناسب الفقير، وإذا كان له بيتٌ قيمته مثلاً ثمانمائة ألف أو نحوه، ويكفيه بيتٌ قيمته أربعمائة، فيباع ذلك البيت، ويشترى له بيت بأربعمائة يكنه ويكن أولاده، ويقضي ديونه، وكذلك جميع ما يمكن أن يستغني عنه، وكل ذلك لأجل تبرئة ذمته، وإعطاء الحقوق لأهلها.

فأما إذا كانت السلعة موجودة، وصاحبها لم يقبض من ثمنها شيئاً، فإنه أحق بها، ولو كان ثمنها مؤجلاً، كم لو قال: هذه سيارتي قيمتها في الحال خمسون ألفاً وأنا بعتها بثمانين ألف، نقول: خذ سيارتك عن الثمانين التي هي رأس مالك، وليس لك شيء، ولا تساهم مع أهل الديون؛ لأنك وجدت عين مالك، ولم تكن قد قبضت منها شيئاً، ولم تكن قد نقص من قيمتها، وهكذا بقية السلع.

وبذلك يعرف أن الشرع جاء بحفظ حقوق المسلمين، وبالنهي عن التساهل فيها، أو التسبب في إتلافها وأن ذلك دليلٌ على كمال هذه الشريعة، واشتمالها على جلب المصالح ودفع المفاسد.