للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خلاف العلماء في حكم إرضاع الكبير]

قوله: (إنما الرضاعة من المجاعة) يدل على أن الرضاعة التي تحرم هي التي تكون في الصغر، وينتفع بها من الجوع، فإذا رضع الطفل من المرأة اندفع جوعه وشبع، وحصل له غذاء، ونبت بذلك الرضاع لحمه، ونشز عظمه، فيصبح قد تغذى من لبن تلك المرأة، ونبت منه لحمه، فينسب إليها، ويكون ابناً لها من الرضاع.

وقد اختلف في رضاع الكبير، فذهب بعض الصحابة كـ عائشة إلى أنه يحرم، واستدلوا بقصة سهلة امرأة أبي حذيفة، فإن أبا حذيفة كان له مولىً يقال له: سالم، فجاءت امرأة أبي حذيفة وقالت: يا رسول الله! إن سالماً بلغ مبلغ الرجال، وإنه يشق عليّ التحجب منه فقال: (أرضعيه تحرمي عليه) ، وقد كان رجلاً قد نبتت لحيته، فأرضعته خمس رضعات ليكون محرماً لها.

ولكن الجمهور على أن هذا من خصائص سهلة، وأنه لا يحل لغيرها أن ترضع كبيراً فتحرم عليه، وما ذاك إلا لضرورة حصلت لها؛ وذلك لأن رضاع الكبير لا يتغذى به بدنه، ولا ينبت منه لحمه، ولا ينبت منه عظمه، وأيضاً فإن الله تعالى قد حدد الرضاع في قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:١٤] ، وفي قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:٢٣٣] ، فلا يمكن أن يزاد على السنتين، والزيادة عليهما زيادة في غير محلها، فالصبي إذا أتم السنتين اكتفى بما يعطى من الأكل ونحوه، واستطاع أن يمضغ الطعام ويتغذى به؛ فلذلك لا حاجة إلى الرضاع بعد الحولين، فإذا أرضع بعد الحولين أو بعد الفطام فهذا الرضاع لا يؤثر ولا يحرم، وهذا هو القول الصحيح، وقصة سالم مولى أبي حذيفة من خصوصيات سهلة، ولو خالف في ذلك من خالف.

وذهب بعضهم إلى أنه إذا اضطرت المرأة إلى رجل لا تجد بداً من الكشف له، وأن يكون محرماً لها جاز لها أن ترضعه كما حصل لهذه المرأة التي هي امرأة أبي حذيفة.

واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين) ، أو (لا رضاع إلا ما كان قبل الفطام) ، وكذلك قوله: (انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة) ، يعني: الرضاعة المحرمة التي يكون لها تأثير هي ما كانت من المجاعة، وفي حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وأنشز العظم وأنبت اللحم) ، فالرضاع الذي في الصغر هو الذي ينشز العظم، يعني: ينبت به العظم ويكبر، وإنشاز العظام نموها ونباتها، كما في قوله: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} [البقرة:٢٥٩] ، يعني: ننميها وننبتها، وكذلك قوله: (أنبت اللحم) يعني: نبت اللحم على العظم بذلك الرضاع، فهذا هو الذي يحرم.

الرضاع من جملة ما بحث فيه العلماء؛ لأن الله تعالى ذكره بقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:٢٣] ، والبحث فيه مشهور وأدلته واضحة، وقد جاءت متنوعة في هذه الأحاديث، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فقالوا: كل قريب يحرم من النسب فإنه يحرم مثله من الرضاعة، فزوج المرأة يسمى أباً من الرضاع، وأولاد المرضعة يسمون إخوة من الرضاع، وإخوان المرضعة أخوال الرضيع، وأخواتها خالات الرضيع، وكذلك أقارب الزوج، فإخوته يصيرون أعماماً للرضيع؛ لأنهم إخوة أبيه، وهكذا بقية الأقارب عملاً بهذا الحديث.