للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أوجه تحريم الخمر في آية المائدة]

أخذ العلماء تحريم الخمر من آية المائدة من عشرة أوجه: الوجه الأول: أن الله قرنها بالأنصاب، وهي: الأصنام، ومعلوم أن الأصنام محرم اقتناؤها ومحرم عبادتها، فما قرن بها أعطي حكمها.

الوجه الثاني: أن الله جعلها رجساً، والرجس: هو النجس، وهو الشيء المستقذر، ولا شك أن كل نجس ومستقذر فإنه حرام، وإن النفوس تأباه وتبتعد عنه.

الوجه الثالث: أن الله أضافها إلى الشيطان وجعلها من أعماله، أي: مما يدعو إليه ومما يزينه، والعاقل لا يأتي شيئاً يحبه الشيطان، فالشيطان إنما يحب للإنسان هلاكه، ويتمنى للإنسان أن يهلك، وأن يضل، وأن يتعب ويبأس، ويحرم ويشقى، فشيء للشيطان فيه عمل ووسيلة علينا أن نبتعد عنه.

الوجه الرابع: الأمر في الاجتناب في قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ) اجتنبوا يعني: ابتعدوا عنه، أي: صيروا في جانب وهو في جانب، وهذا أبلغ في الزجر؛ وذلك أبلغ من أن يقول: اتركوه، فإنهم إذا تجنبوه ابتعدوا عنه، فأخذوا من هذا أنها محرمة، وكل شيء أمرنا باجتنابه فإنه لا يجوز القرب منه، فضلا ًعن ملابسته، فضلاً عن تعاطيه وشربه.

الوجه الخامس: ترتب الفلاح على تركها في قوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) والمفلح: هو السعيد، ولا تحصل السعادة والفلاح إلا باجتناب الخمر والميسر ونحوهما، والفلاح هو صفة أهل الإيمان كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:١] أي: قد سعدوا، أي: أن من لم يتجنب الخمر والميسر فإنه بعيد من الفلاح، وبعيد أن يصل إلى مرتبة الفلاح، وحري أن يكون من أهل الشقاء والخسارة.

الوجه السادس: قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ) أي: أن الشيطان هو الذي يدعو إليها، وهي من عمله، (أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ) فالشيطان يحرص على إيقاع العداوة بين المسلمين، والعداوة هي: أن يحقد كل منهم على الآخر، وأن يعاديه ويقاطعه، وما ذاك إلا أنه إذا سكر فقد يسب أخاه ويسب عمه وخاله، وقد يعتدي فيشج هذا ويضرب هذا؛ لأنه قد فقد العقل الذي يحجزه، فإذا صحا ندم على ما فعل، ولكن بعد أن فعل ما يلام عليه.

وذكر في أسباب النزول قصة حمزة رضي الله عنه، وهي: أنه شرب قبل أن تحرم الخمر وسكر، وكان لـ علي رضي الله عنه ناقتان من أشرف النوق وأفضلها، حصل عليهما من غزوة بدر، ولما عزم على أن يذهب مع بعض الطوافين ليأتي بإذخر ليبيعه ويستعين بثمنه في وليمة زواجه بـ فاطمة، وكان حمزة في بيت قريب من تلك الناقتين، فأنشدته امرأة مغنية وهو ثمل فقالت: ألا يا حمز للشرف النواء وهن معقلات بالفناء ضع السكين في اللبات منها وضرجهن حمزة بالدماء فهيجته على أن يأخذ السكين، ويذهب إلى الراحلتين ويجب أسنمتهما -وهما لم يذكيا-، ويبقر بطونهما، ويأخذ من أكبادهما، فلما أتى علي رضي الله عنه وإذا ناقتاه قد فعل بهما هذا الفعل، فهاله ذلك وأحزنه، وأُخبر بأن الذي فعله هو عمه أخو أبيه حمزة سيد الشهداء، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل حمزة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ودخل على حمزة وهو ثمل لم يصح، فجعل يلومه ويوبخه، فرفع رأسه وقال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟! قال ذلك لأنه فاقد العقل، وهل يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم عاقل فضلاً عن حمزة؟!! لا شك أنه ما قاله إلا بعدما سكر وذهب عقله.

إذاً: فالخمر من أسباب البغضاء والعداوة، ولا شك أن علياً رضي الله عنه لولا أنه عارف أن هذا من فقد العقل لحقد على عمه، ولمقته ولأبغضه، ويحصل هذا كثيراً، فإن جماعة من الصحابة سكروا مرة فتقاتلوا وتضاربوا، فأخذ أحدهم لحي جمل فشج به وجه بعضهم، فكان يحقد عليه، فالشيطان يوقع العداوة بين المسلمين إذا سكروا وفعلوا ما فعلوه من هذه الأشياء التي توجب العداوة بينهم.

الوجه السابع: البغضاء التي ذكرها الله مع العداوة، فالشيطان هو الذي يوقعها، فيبغض الإنسان أخاه، ويبغض ابنه أو عمه أو خاله أو ابن عمه؛ لأنه قد اعتدى عليه وهو سكران، وقد ضربه أو قد أتلف ماله أو نحو ذلك.

الوجه الثامن: الصد عن ذكر الله في قوله: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ومعلوم أن الإنسان إذا كان ثملاً غائب الفكر لا ينشغل بذكر، ولا ينشغل بدعاء، ولا ينشغل بقراءة، ولا ينشغل بعبادة؛ لأنه فاقد لعقله الذي تميز به، فلأجل ذلك جعل هذا علة في التحريم.

الوجه التاسع: أن السكر والميسر ونحوهما مما يشغل عن الصلاة، وذلك أيضاً من أمر الشيطان لقوله تعالى: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ) أي: يشغلكم عنها، كما قال بعض المتأخرين: إن جاءه الظهر فالوسطى يؤخرها أو مغرباً فعشاء قط لم يأتِ أي: إذا سكر وقت الظهر فإنه يؤخر العصر أو لا يصليها إلا بعد ما يصحو أو تفوته، وإن سكر بعد المغرب فلا يصحو إلا نصف الليل أو نحوه، فتفوته العشاء، وإن أتاها أتاها وهو غافل، وهو ساهٍ، وإن أتى بها لم يأت بها بقلب حاضر، ولا شك أن هذا من أسباب تحريم الخمر.

الوجه العاشر والأخير: قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) أي: وقد عرفتم أضرارها ألا فانتهوا، لذلك قالوا: (انتهينا انتهينا) فمن هذه الآيات عرف الصحابة أن الخمر قد حرمت.