للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كفارة اليمين]

ما يتعلق بالإمارة في هذا الحديث ذكر استطراداً، والشاهد من الحديث قوله: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك) .

فالإنسان قد يحلف ويؤكد الحلف، ويكون حلفه على ترك معروف أو على فعل منكر أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يندم على يمينه، ويقول: ليتني ما حلفت.

لقد أوقعتني هذه اليمين في حرج.

فإذا حلف الإنسان -مثلاً- أن لا يدخل بيت أخيه، أو حلف أن لا يكلم أباه، أو حلف أن لا يعطي المساكين من الصدقات ونحوها، أو لا يعطي هذا المسكين، أو حلف أن لا يصلي بهذا المسجد كراهية لإمامه ولا ذنب له مثلاً، أو حلف أن لا يصل أرحامه، أو حلف أن يعق أباه، أو حلف أن يقطع أقاربه، أو حلف أن لا يأكل عند فلان وإن كان أكلاً عادياً أو نحو ذلك، ثم رجع إلى نفسه فهذا الحلف تارة يكون على مخالفة ومعصية وتارة يكون على أمر عادي، فالأولى له في الحالات كلها أن يفعل الذي هو خير، حتى ولو كان من الأمور العادية، وسيأتي لها أمثلة في النذور إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا يكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، وإذا حلف أن يهجر فلاناً ولا يسلم عليه فبقي على هذا الهجران شهراً، وفكر بعد ذلك وقال: أليس هذا ذنباً؟ وأجاب: بلى.

إن التهاجر ذنب، فما المخرج وأنا قد حلفت؟ فنقول: المخرج أن تكفر فتطعم عشرة مساكين من أوسط ما تطعم به أهلك، أو تكسوهم، أو تعتق رقبة، فإن لم تجد فتصوم ثلاثة أيام متتابعة، وتفعل الذي هو خير، فسلامك على أخيك خير من هجرانه، وأكلك من طعامه جبراً لنفسه خير من تركك لذلك، وصلتك لأرحامك خير من القطيعة، بل إن القطيعة ذنب.

وكذلك عند الحاجة قد يحلف الإنسان وتحمله الحاجة على المخالفة، فجعل الله له كفارة، فقال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:٨٩] ، وتعقيد الأيمان يعني تأكيدها وتقويتها، وفي قراءة (عاقدتم الأيمان) يعني: عقدتم اليمين وأكدتموها.

وقد عفا الله تعالى عن اللغو، فكثيراً ما يجري على لسانك وأنت في المجلس قولك: لا والله، وبلى والله.

وأنت ما عزمت على الحلف، فهذا من اللغو الذي يُعفى عنه، وأما إذا عزمت وجزمت وحلفت أنك ما تركب هذه السيارة، أو أنك ما تعطي ولدك مفاتيحها مثلاً، أو أنه ما يقود بك سيارة، أو أنه لا يدخل عليك طوال حياتك مثلاً، أو حلفت أن تقتل هذا الرجل وأنت ظالم له، أو حلفت أن تقطع يده بغير حق، أو تقطع منه طرفاً، أو حلفت أن لا تقضيه حقه مع أنه مستحق، أو حلفت أن لا تشتري من هذا الدكان بغير ذنب وأنت ستحتاج إلى أن تشتري منه، فمثل هذه الأشياء الأولى بك أن تخالف ما حلفت عليه، وأن تكفر عن يمينك، وأن تفعل الذي هو خير.

ومن الدليل عليه أيضاً حديث أبي موسى وقصته في غزوة تبوك، فالأشعريون كانوا أربعة أو خمسة يحبون أن يغزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم لا يجدون ما يركبون، ولا يجدون رواحل يرحلون عليها، فأرسلوا واحداً منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يحملهم، فعند ذلك جاؤوا إليه وهو غضبان من كثرة من ينازعه وكثرة من يطلبه، ففي حالة طلبهم له وهو غضبان قال: (ما عندي ما أحملكم، ووالله ما أحملكم) صدرت منه هذه اليمين: (والله ما أحملكم) ، فرجعوا يبكون أسفاً على أنه لم يحملهم، وبعد ساعات جاءت إليه عليه الصلاة والسلام رواحل، فقال: (أين أبو موسى الأشعري؟) ، فقيل: إنه رجع.

فأرسل إليهم بخمس من الإبل ليركبوها وليرتحلوا عليها ويغزوا معه، فلما جاءتهم قالوا: إنه قد حلف أن لا يحملنا، إنا استغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، والله لا يبارك لنا.

فعند ذلك رجعوا إليه وقالوا: إنك قد حلفت أن لا تحملنا ثم حملتنا! فقال: (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، إني -والله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وتحللتها) أي: فعلت الذي هو خير.

فجعل هذا من فعل الخير، فهو حلف أنه لا يحملهم، وكان في غزوهم مصلحة ومنفعة وخير، فحملهم بعد ما حلف أن لا يفعل، وكفر عن يمينه، فهذا ونحوه دليل على أن من حلف أن لا يفعل معروفاً فإن الأولى له أن يفعله.

ذكروا أن رجلاً كان له دين على إنسان، فأفلس ذلك المدين وكثر عليه الدين، فقالوا لصاحب الدين: لعلك تنزل وتسقط عنه شيئاً من دينك -أي: من باب التسامح- فحلف وقال: والله لا أسقط منه شيئاً.

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (حلف أن لا يفعل معروفاً) ثم أمره أن يكفر ويسقط عنه بعض الشيء) ، فهذا مثال في أن من حلف أن لا يفعل معروفاً فإن الأولى له أن يفعله ويكفر عن يمينه، ومن حلف أن يفعل منكراً فإن عليه أن يتركه، كما سيأتي.

وعلى كل حال فاليمين إذا كان الترك خيراً من الفعل فالإنسان يترك ما حلف عليه، وفي الكفارة محو لذلك الذنب الذي فعله، فإذا كفر الكفارة التامة محي عنه ذلك الحنث، وأما إصراره على ذلك فإنه مذموم، قال تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٤٦] يعني: فعل الشيء بدون كفارة.

فهناك ثلاثة أشياء: الأول: الحلف على فعل منكر ثم يفعله، فهذا منكر.

الثاني: الحلف على ترك معروف ثم يتركه، فهذا أيضاً منكر.

الثالث: أن يحلف على فعل شيء ثم يرى أن فعله منكر، فيكفر ويمحو الله عنه اليمين الذي حلف بها.