للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترك المشتبهات]

قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس) ، وفي رواية: (وبينهما مشبهات) ، هذه المشبهات قد تشتبه على بعض الناس إما في وجه الكسب، وإما في وجه المدخل، وإما من حيث الأصل، فتشتبه على الناس، فتتعارض فيها الأدلة أو الأقيسة، أو لا يوجد فيها دليل، ولها شبه بهذا، ولها شبه بهذا، فتلحق بما هو أقرب لها.

فمن الدواب ما اختلف في حله وفي حرمته، فاختلفوا في لحم الخيل هل هو حلال أو حرام؟ فذهبت الحنفية إلى أنها حرام وألحقوها بالحمر، وذهب الجمهور إلى أنها حلال، واستدلوا بما ورد فيها من الأحاديث، مثل حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام (حرم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل) .

واختلفوا في أكل الفيل هل من هو الدواب المباحة أم لا؟ والجمهور على أنه حرام لأنه ذو ناب واختلفوا في أكل الزرافة، وأكثرهم على أنها حلال لأنها أشبه ببهيمة الأنعام.

واختلفوا في أكل الضب، والجمهور على أنه حلال، وإن وردت فيه بعض الأدلة التي تدل على كراهته.

واختلفوا في أكل الجراد، والجمهور على أنه حلال؛ لأن العرب تستطيبه، ولما ورد من الأحاديث في إباحة أكله.

واختلفوا في أكل الدلدل ويسمى النيص وأكثرهم على أنه ملحق بما تستخبثه العرب، ولكن إذا غلب على الظن أن هذا الشيء مختلف فيه، وأن النفس تميل إلى النفرة منه؛ فإن الإنسان يترك الشيء المشتبة.

أما الضبع فهو ملحق بما يأكل الجيف، وله ناب، ويفترس، فلأجل ذلك قال الجمهور: هو حرام، وجعلها بعضهم من المستثنى، وأباحها لأجل ما ورد فيها من الأحاديث، ولكن الورع ترك المشتبهات.

وأما الأرنب ففيها هذا الحديث الذي في الصحيحين، يقول أنس: أنفجنا أرنباً بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، يعني: تعبوا، فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها فقبله، فدل على أنها من المباح؛ لأنهم سعوا في أثرها، فدل على أنها مباحة الأكل، وقال بعضهم: إنها تحيض؛ ولأجل ذلك لا تباح، ولكن لا دليل على كراهتها.

وعلى كل حال فالإنسان إذا اطمأنت نفسه إلى شيء فإنه من المباح، وإذا نفرت نفسه من هذا الشيء فيتركه حتى يقوم عنده دليل على حرمته أو على إباحته بناء على الأصل.

وأما المعاملات فقد تقدم أن الكثير من المكاسب قد يكون فيه اشتباه على الإنسان، يشتبه عليه هذا المكسب، أو هذه المعاملة هل هي من المباح أم لا؟ فيشتبه عليه هذا المال الذي جاءه من هذه الجهة هل هو حلال أو حرام؟ فيدخل في قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس) ، وإذا اشتبه عليك هذا الأمر، وتقززت نفسك منه، فإن الأولى الصبر عنه؛ ولأجل ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) ، وقال قبل ذلك: (استفت قلبك) يعني: انظر إلى هذا الشيء؛ هل تجد أن نفسك ترتاح لهذه المعاملة أم تجد أن نفسك تكرهها وتتوقف فيها؟ هذا من جهة، ولكن قد يكون بعض الناس معهم شيء من التساهل، فيتوسعون في المكاسب ويأخذون أموالاً بغير حق باسم أجرة أو باسم جعالة؛ وإن كانت لم تطب بها نفس الذي بذلها، أو أنه لا يستحقها لسبب من الأسباب، فإذا لم يكن لها جهة شرعية فما أحسن التورع، والبعد عنها، والسلامة من مآثمها؛ حتى يطيب مأكل الإنسان؛ لأن الأكل إذا كان طيباً كان البدن طيباً، وسلم من العذاب، وإذا تغذى البدن على حرام كان البدن آثماً أو نجساً، وفي بعض الأحاديث: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به) .

فعلى المسلم أن يكون متنزهاً عن الآثام، وأن يكون متحرياً للصواب، وأن يكون ورعاً عما ليس بحلال واضح الحلية، وهذا معنى قوله: (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) ، فالشبهات هي هذه الأمور المشتبهة التي تأتيك، يأتيك هذا المال باسم مساعدة، وقد يكون قصد صاحبه أن يعطيك لأجل أن تشفع له، أو لأجل أن تقربه، أو لأجل أن تزيد له في سعر، أو أن تنقص له في ثمن، أو ما أشبه ذلك، ولا تطيب به نفس صاحبه، فيكون حراماً أو يكون مشتبهاً، فإذا توقيت هذه الأمور المشتبهة واقتصرت على ما هو حلال نجوت إن شاء الله من الحرام، واستبرأت لدينك، واستبرأت لعرضك، وأما من توسع في هذه المشتبهات فإنه يجره ذلك إلى الوقوع في الحرام؛ ولأجل ذلك قال: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام) ؛ لأنها مع كثرتها لابد أن يكون فيها شيء حرام ولو كان قليلاً، ولو درهم من ربا أو شبيه بربا، أو شبيه برشوة، أو شبيه بغرر، أو شبيه بمال لم تطب نفس صاحبه، ولكن بذله قهرياً أو ما أشبه ذلك، فلا شك أنه والحال هذه يعتبر من المشتبه أو من الحرام.

وإذا وقع في كثير من المشتبهات وقع في الحرام ولا بد، ومثل له النبي عليه السلام بقوله: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ، الحمى هي الأرض التي يحميها ملك من الملوك أو نحوه، فإذا جاء راعٍ بغنمه ورعى حولها فقد يغفل عنها فتدخل غنمه في ذلك الحمى، فيمسكه الحماة الذين يحمونها، ويعذبونه ويعاقبونه على دخوله، فهكذا الذي يقرب من الحرام لا يأمن أن يقع في الحرام.