للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذم التعصب للأئمة في المسائل الاجتهادية]

هناك أتباع للأئمة في الفروع اجتهدوا كما اجتهد الشافعي واتبعوه، وهناك أتباع لـ أبي حنيفة اتبعوه، وأتباع لـ مالك اتبعوه، وأتباع للأوزاعي، وأتباع للثوري، وأتباع لليث، وأشباههم، ولكن هذا فيما يتعلق بالفروع التي طريقها الاجتهاد، وإذا قلت: لماذا حصل التفاوت؟ ولماذا حصل التمذهب، حتى أدى ذلك إلى التعصب، فنحن نرى أن الحنفية يتعصبون لمذهبهم، وأن الشافعية كذلك، وكذا الحنابلة والمالكية ونحوهم؟ فلماذا هذا التعصب وهذا التمذهب؟ أليس الدليل واحداً؟ أليس القصد والهدف واحداً؟ نقول: نعم، الهدف واحد، ولكن هذه الأشياء حدثت بسبب الاجتهاد، فهؤلاء اختاروا قولاً، وصار لهم مشايخ، ولهم كتب يرجعون إليها، فصار بعضهم يتمحل في رد الأدلة التي يستدل بها خصومهم، ويتعصب لمذهبه ومذهب إمامه، ونحن ننكر عليهم هذا التعصب، ورد الأحاديث التي هي صريحة في مخالفة مذهبهم، وهذا التعصب حدث للمتأخرين، ولعل بعضكم قرأ في كتاب البيهقي السنن الكبرى التي طبع في ذيلها رد عليها اسمه: الجوهر النقي في الرد على البيهقي، فـ البيهقي رحمه الله عالم جليل محدث حافظ، ولكنه شافعي المذهب، فإذا جاء إلى المسألة التي فيها المذهب الشافعي استوفى الأحاديث التي فيها، ولا يزيد على الاستيفاء، وإذا خالفه مذهب أبي حنيفة، فإن صاحب الجوهر النقي يتعصب تعصباً شديداً، ويرد تلك الأحاديث، ونحن نعذر الإمام أبا حنيفة في مخالفته لتلك الأحاديث أو تلك الأدلة، ونقول: إما أنها لم تبلغه، وإما أنها لم تثبت عنده لما بلغته، ولم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وإما أنها بلغته ولكن ثبت عنده ما ينسخها أو ما يخالفها، وإن لم يثبت ذلك عند غيره، فهو معذور، ولكن لا يعذر أتباعه الذين تعصبوا له، وتشددوا في نصرة مذهبه، بل ردوا الأحاديث كما فعله صاحب الجوهر النقي هذا، وهو: ابن التركماني، وهو متأخر في حدود القرن الثامن.

أما المقتصدون منهم فإنهم لا يتعصبون، فمثلاً صاحب نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية حنفي يقال له: الزيلعي، وهو عالم بالحديث منصف، يذكر أحاديثهم التي تدل على مذهب الحنفية، ثم يذكر أحاديث من خالفهم، ولا يتشدد في ردها ولا في تعقبها، وهذا بلا شك من الإنصاف.

وبكل حال نقول: إن الأئمة والعلماء من هذه الأمة هم خير هذه الأمة، وفضلهم ظاهر؛ وذلك لأنهم حفظوا على الأمة دينها، ومن نصحهم للأمة أنهم دونوا ما حفظوه وكتبوه، فكتبوا فقههم وأحكامهم، وكتبوا الأحاديث التي بلغتهم، وبينوا وجهتهم واجتهاداتهم، وذلك كله نصح وشفقة للأمة، فرضي الله عنهم وجزاهم عن هذه الأمة خيراً، فهم أفضل هذه الأمة، فأفضل هذه الأمة علماؤها، وقد ذكر الله عن الأمم السابقة أن علماءهم فيهم المخالفة الشديدة، فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١] الرهبان: هم العباد، والأحبار: هم العلماء، ويقول الله تعالى في أهل الكتاب: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:٧٨] فذمهم بأنهم يكذبون ويتقولون، وذمهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وأنهم كتموا ما أنزل الله، وذمهم بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:١٨٧] ، أما هذه الأمة فإن علماءها نصحوا لأتباعهم، ونصحوا للأمة، وبينوا لهم طرق الصواب، فجزاهم الله عن الأمة خيراً، ونحن نقول كما أمرنا الله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:١٠] .