للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاختلاف الواقع بين الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم]

سمعنا ما نقله الشارح من الاختلاف الذي وقع بين الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرهم الله تعالى، وأقرهم رسوله عليه الصلاة والسلام.

ففي غزوة بني النضير -وهم يهود بجوار المدينة- حاصرهم الصحابة، وكانت نخيلهم محيطة بهم، فجعل بعض الصحابة يقطع من النخل ليكون غيظاً للكفار، وبعضهم يقول: لا تقطعوها فإنها في مآلها سترجع غنيمة للمسلمين، وكل منهم مجتهد، فأقر الله هؤلاء وهؤلاء فقال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:٥] .

وكذلك الاختلاف الذي حصل في غزوة بني قريظة، وهم أيضاً طائفة من اليهود، لما نقضوا العهد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اخرجوا إليهم، لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة) ، وهم بمكان بعيد، لا يمكن أن يصلوه في الوقت القريب، فبعض الصحابة صلوا في الطريق، وبعضهم أخروا الصلاة حتى وصلوا بني قريظة بعد غروب الشمس، فأقرَّ هؤلاء وهؤلاء، الأولون قالوا: إنما أراد منا الإسراع، والآخرون قالوا: نمتثل أمره ولو فات وقت الصلاة، فكلهم مجتهد، ويسمى هذا اختلاف تنوع، ولم يُخَطَّأ أحد منهم لاجتهادهم.

وهذا مثل الاختلاف الذي وقع بين الصحابة لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فبعضهم أنكر موته وقالوا: إنما هو إغماء، وبعضهم قال: إنه قد مات، فاختلفوا، ثم بعد ذلك اجتمعوا لما سمعوا أبا بكر يتلو قوله تعالى: {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:١٤٤] .

وكذلك لما ارتد المرتدون من الأعراب قال بعضهم: نقاتلهم، وقال بعضهم: إنهم يقرون بالشهادة، وإنما منعوا الزكاة فاختلفوا، ثم اجتمعوا بعد ذلك على قتالهم، قال عمر: (ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق) .

فهذا يبين أنهم متى علموا أن الحق مع أحدهم رجعوا إليه، ولم يتعصب أحد منهم لرأيه ولا لمذهبه، ولا شك أن هذا هو الصواب والفعل الصحيح، كون الإنسان يرجع إلى الحق متى عرفه، فإن الحق قديم كما قاله عمر رضي الله عنه، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

ومن هذا أيضاً الاختلاف الذي وقع بين الأئمة، وقع بين الصحابة خلاف في بعض الفروع، فخالف ابن عباس في أشياء ولكن لم يضلله غيره، فرُوي عنه أنه خالف حتى في مسائل فرضية، خالف في حجب الأم بأخوين، ورأى أنها لا تُحجب إلا بثلاثة أي: تحجب من الثلث إلى السدس، وقال: إن الأخوين ليسا بإخوة، والله يقول: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:١١] .

وخالف في العول وقال: إن الفرائض ليس فيها عول، يعني: زيادة في السهام، ونقص في الأنصباء، فقال: إن الذي علم عدد رمل عالج لم يجعل في المال نصفاً ونصفاً وثلثاً.

والصحابة الذين عملوا بالعول اتفقوا على العمل به؛ ولكن لم يضللوه، وقالوا: هذا اجتهاده، ولبقية الصحابة اجتهادهم.

وخالف في تحريم الحمر الأهلية، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما نهى عنها إلا أنها حمولة الناس، فرد عليه الصحابة الذين قالوا: إنه نهى عن الحمر وقال: (إنها رجس أو ركس) أو نحو ذلك، ولكن مع ذلك لم يعادوه، ولم يقاطعوه، ولم يكن بينهم وبينه عداوة وقالوا: هذا اجتهاده وللآخرين اجتهادهم.