للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكمة الله تعالى في إعانة العبد على ما أمره أو عدم إعانته]

قال المؤلف رحمه الله: [والمقصود أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه، فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته، فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره نشأةً وخلقاً ومحبة، فكان مراداً بجهة الخلق ومراداً بجهة الأمر، ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه؛ لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده.

وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر، فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه، ودعاؤه، وتوبته، وتكفير خطاياه، ويرق به قلبه، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان، يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح، ولذلك كان خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض، يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل.

وتفصيل حكمة الله عز وجل في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر، والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة، مثلوا الله فيها يخلقه ولم يثبتوا حكمة تعود إليه] .

يمثلون بهذا في أن حكمة الله تعالى قد تقتضي إعانة المأمور وقد تقتضي عدم إعانته، فالله تعالى أمر الجميع مؤمنهم وكافرهم بالتقوى في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:١] ، ولكن من الناس من اتقى ومنهم من لم يتق الله، فالذين اتقوا الله هؤلاء قد أراد الله بهم الخير وهداهم وأعانهم، فله عليهم نعمة الإعانة ونعمة الفضل، والذين لم يتقوه هؤلاء قد خذلهم وخلى بينهم وبين أهوائهم ولم يعنهم، حكمة منه وعدلاً، فهذا خلق فيه الإيمان وهذا خلق فيه الكفر، بمعنى: مكنه منه وأقدره عليه.

وله الحكمة في هذا وهذا؛ وذلك لأنه خلق ضدين مؤمناً وكافراً، وخلق دارين جنة وناراً، ولا بد لكل من الدارين من أهل يؤهلون لها، ولهذا يخبر تعالى بأنه لو شاء لهدى الناس جميعاً، ويخبر بأنه لو شاء لضلوا كلهم، فيقول تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:٣٣] ، يعني: لولا أن يكونوا كلهم على الكفر لجعلنا للكفار هذه الأشياء؛ فينخدع الناس بهم ويعتقدون أنهم خصوا بذلك لشرفهم ولأهليتهم فيكفرون مثلهم، وهو واقع كثيراً.

وخلق تعالى المرض والصحة وله الحكمة في ذلك، ففي خلقه للمرض مصلحة، هذه المصلحة تكمن في أن المريض يشعر بالذل وبالضعف ويشعر بالحاجة، إذا مرض تذكر ضعفه وتذكر فاقته وحاجته، وتذكر مسكنته وتعلق قلبه بربه ودعاه واستكان إليه.

وإذا كان دائماً في صحة ونعمة ورفاهية ونشاط وثروة وشهوات متتابعة؛ فإنه لا يأمن أن يأخذه الأشر والبطر والكبرياء والإعجاب بالنفس، ويكون منطلقاً إلى الكفر وإلى المعاصي كما هو الواقع، ولهذا يخبر تعالى بأنه لو وسع على الناس لتجبروا، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لعباده لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:٢٧] ، يعني: لتكبروا ولتجبروا، فبذلك نعرف أنه عندما خلق هؤلاء واختار أن يكونوا مؤمنين، وهؤلاء وجعلهم كافرين، فذلك كما أنه خلق المرض وخلق الصحة وله الحكمة في خلق الضدين.