للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نفي التشبيه غير مستلزم لنفي الصفات وإثبات الصفات غير مستلزم للتشبيه]

قال المؤلف رحمه الله: [ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين، أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات، بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تقدم من كلام أبي حنيفة رحمه الله: أنه تعالى يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، وهذا معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ، فنفى المثل وأثبت الوصف.

وسيأتي في كلام الشيخ إثبات الصفات، تنبيهاً على أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات.

ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بَعد التناهي الحيرة والاضطراب؛ لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها.

ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:٦٠] ، مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو للمحدث، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، -وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه- فالواجب القديم أولى به.

وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، وهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات، والممكنات والمحدثات فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى.

ومن أعجب العجب أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات والأسماء، ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا، ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله) ، فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟! وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله تعالى.

ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته، فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا يشبهه الأنام) والأنام: الناس، وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان، وظاهر قوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:١٠] ، يشهد للأول أكثر من الباقي.

والله أعلم] .

يعني: أن مؤلف المتن ممن يقول بإثبات الصفات، ومن المعلوم أن من أثبت الصفة فإنه لا يقول بنفيها، مع كونه يصرح بنفي التشبيه، فـ الطحاوي الذي هو صاحب المتن يثبت صفات الأفعال كالكلام والعلم والقدرة وما أشبهها، وإذا كان يثبتها فقد صرح هنا بأنه ينفي مشابهة الخالق للمخلوق، وبذلك يعلم أنه لا تناقض بين إثبات الصفات ونفي التشبيه، فنحن أهل السنة نثبت أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، وأن مرجعها إلى خبره عن نفسه وخبر رسله عنه، ونعتقد مع ذلك أنها تختص به ولا تشبه غيرها، كما أن صفات المخلوق تختص به ولا تشبه صفات الخالق.

ويعتقد المسلمون أيضاً أن الله تعالى موصوف بكل كمال، كما في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:٢٧] ، وهذا يسمونه قياس الأولى، وقياس الأولى: هو أن كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به؛ وذلك لأن المخلوق لم يكتسبه إلا من الخالق سبحانه، فصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كيف توجد في المخلوق ويخلو عنها الخالق؟! تعالى الله، هذا هو قياس الأولى.

وأما قياس التمثيل وقياس الشمول الذي يستعمله القياسيون من أهل الكلام فلا يجوز استعماله، فلا يجوز مثلاً أن يقال: كل موصوف فإنه حادث، فصفات الخالق لا يقال: إنها حادثة، فهذا خطأ، بل الخالق بصفاته ليس بحادث، بل هو الأول بصفاته سواء كانت فعلية أو قولية أو ذاتيه.

وسيأتي أن الطحاوي يصف الرب سبحانه وتعالى حيث يقول: (ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق) ، أي: ولا بعد رزقهم استفاد اسم الرازق، والمعنى أنه موصوف بأنه الخالق قبل أن ينشئ الخلق، وموصوف بأنه الرازق قبل أن يوجد الخلق الذين يرزقهم، وهكذا أيضاً الصفات التي لها أثر في العباد نحو (التواب) هو موصوف بأنه التواب وإن لم يكن هناك من يتوب عليهم، وموصوف بأنه الرحمن قبل أن يوجد من يرحمهم وهكذا.

صفات الله تعالى أولية أزلية ليست مسبوقة بعدم، وليست كصفات أي مخلوق، وكل كمال في المخلوق فإنما اكتسبه واستفاده من الخالق، فالله تعالى هو الذي أعطاه وهو الذي أيده وهو الذي سدده، وبالجملة لا يفهم كما تقول المتكلمة: إن إثبات الصفات تشبيه، بل يجتمع أن المسلم يصف الله بصفات الكمال ومع ذلك لا يكون مشبهاً، ولأجل ذلك جمع الله الرد على الطائفتين في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] فإن قوله: (ليس كمثله شيء) رد على المشبهة، وقوله: (وهو السميع البصير) رد على المعطلة.

فالمشبهة هم الذين غلوا وأثبتوا الصفات حتى جعلوها كصفات المخلوق، والمعطلة هم الذين غلوا في النفي حتى عطلوا الخالق عن صفاته، وهاتان الطائفتان قد كفرهم كثير من العلماء، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان يقول بعض السلف: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد المثبت يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً، وهذا معنى قول بعض السلف: أن من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه.