للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منع الجهمية من حوادث لا أول لها والرد عليهم]

قال المؤلف رحمه الله: [قالت الجهمية ومن وافقهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له؛ وذلك لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له بخلاف جنس الحوادث.

فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان، وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء] .

شبهة أيضاً من شبهات المعتزلة أو الجهمية ونحوهم، ولا يحتاج المسلم إلى معرفة أصول الرد عليهم في قولهم بأن هذه حادثة في وقت كذا وكذا؛ وذلك لأنا لا نعلم وقت حدوث هذه المحدثات، ويمكن إذا قدرنا أنها حدثت مثلاً قبل مائة ألف سنة أن يقول قائل: يمكن أنها قبل مائتين، ويقول آخر: يمكن أنها قبل ألفين، ويقول آخر: قبل ذلك بألوف.

فإذاً ليس هناك وقت يلزم العباد بأنه حدثت فيه هذه المحدثات، لكن نعرف أنها حادثة، فالله تعالى ذكر أنه خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:١] يعني: كان معدوماً، وخلق الجن بعد أن كانوا معدومين، وخلق الملائكة بعد أن كانوا عدماً، وهكذا أيضاً خلق السموات والأرض في ستة أيام بعد أن لم تكن موجودة، وهكذا سائر المخلوقات الله الذي ابتدأ خلقها، ولا شك أنه أوجد هذه الموجودات وبث هذه الدواب مثلاً على هذه الأرض، وخلق هذه الأنهار وهذه البحار والأشجار والثمار والآبار ونحو ذلك، هو الذي ابتدأها بعد أن لم تكن موجودة، ويمكن أنه خلق قبلها مخلوقات لا ندركها ولا نعلمها، فالله تعالى هو المنفرد بالخلق والتصرف، وإنما علينا أن نعتبر بما نرى، نعرف أن هذه الموجودات التي خلقت خلقت لنا للاعتبار، نأخذ منها دلالة وعبرة على أن خالقها هو خالق كل شيء، وأن الذي هو خالق كل شيء هو المستحق لأن يعبد وحده؛ فنعبده ونخلص العبادة له ولا نتجاوز ذلك، هذا هو الأولى بالمسلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث، أو جنس الحوادث، أو جنس الفعل، أو جنس الأحداث، أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان، وهو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً، من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل، وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين، فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه، فإنه يعقل كون الحادث ممكناً، ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه] .

الممكن: هو الذي يتصور وجوده وحدوثه، الممتنع: هو ما لا يتصور العقل وجوده، أو ما لا يمكن أن يحدث، الممتنعات: هي المستحيلات.

ومعلوم أن هذه المخلوقات كانت معدومة فوجدت لإمكان حدوثها، وأن هناك أشياء مستحيلة ولم تكن، وممتنعة ولم تحدث، مثل: الجمع بين الضدين، فلا يمكن مثلاً أن يكون المكان الضيق مظلماً ومنيراً في وقت واحد، فلا يجتمع فيه النور والظلمة لكونهما ضدين، ولا يجتمع في وجه إنسان كونه أبيض وأسود، ولا في ثوبه مثلاً أنه أحمر وأبيض؛ لأن اجتماع الضدين من الممتنعات، ومعلوم أن الله تعالى لا يعجزه شيء وأنه قادر على أن يجمع بين الضدين، وقادر على أن يخلق المستحيل، ولكن جرت العادة بامتناع هذا في التصور، وأخبر بأنه قد يوجد بعض الأشياء مثل الأمور الغيبية، كقوله تعالى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:٧٤] ، كأن العاقل يقول: مستحيل أن يكون الشيء لا ميتاً ولا حياً، يقال: ليس بمستحيل بل يمكن في قدرة الله أن يكون ميتاً حياً في آن واحد، وإن كان المراد أنه لا يحيا حياة يستلذ بها في النار، ولا يموت موتاً يستريح منه، بل هو متألم يتمنى الموت ولا يحصل له؛ لهذا السبب نفيت عنه الحياة والموت، وعلى كل حال وصف الرب سبحانه بالأفعال عام في أنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، وأنه قادر على أن يجمع بين المختلفات، وأن يوجد المتضادات، ولكن جرت العادة بأن هذا الممتنع لم يحدث ولم نره مع قدرته على أن يحدثه.