للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عموم قدرته تعالى وضلال المعتزلة]

قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ) ] .

قال الشارح: (ذلك) إشارة إلى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه والكلام على (كل) وشمولها، وشمول (كل) في كل مقام بحسب ما يحتف به من القرائن يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى.

وقد حرفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٨٤] ، فقالوا: إنه قادر على كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد فلا يقدر عليها عندهم، وتنازعوا: هل يقدر على مثلها أم لا؟! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال: هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها، فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء.

وأما أهل السنة فعندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما في حال واحدة فهذا لا حقيقة له ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب خلق مثل نفسه وإعدام نفسه وأمثال ذلك من المحال.

وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة؛ فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر على تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه على كل شيء قدير، وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به، كقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:١] ، فيكون شيئا في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] ، قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:٩] أي: لم تكن شيئا في الخارج وإن كان شيئا في علمه تعالى، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:١]] .

يعتقد المسلمون ما أخبر الله به عن نفسه من عموم قدرته أنه على كل شيء قدير، وكلمة (شيء) يدخل فيها ما هو موجود وما هو معلوم مما يقدره الله تعالى، وتدخل فيها أعمال العباد، فيدخل فيها عمل العبد مثل عباداته وطاعاته وحسناته، وكذا سيئاته وخطاياه كلها داخلة في عموم (كل) في قوله تعالى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٠] ، فيدخل في ذلك كل الممكنات.

أما غير الممكن المستحيل فإنه لا يدخل في هذا العموم، مثل كون الشيء معدوماً موجوداً في آن واحد، فهذا من المستحيل أن يوجد ويعدم في آن واحد، أو يكون الشخص حياً ميتاً في آن واحد، ومثل ما يورده بعض المتعنتين فيقولون: هل يقدر الله أن يخلق مثل نفسه؟ نقول: هذا محال، ولا ينبغي الخوض فيه، فهو من المحال؛ حيث إنه تعالى هو المنفرد الذي ليس له شريك وليس له شبيه ولا معين.

والمعتزلة ينكرون هذا العموم (على كل شيء قدير) ، ويقولون: على ما يقدر عليه قدير.

ولا شك أن هذا فيه تنقص؛ فإنه بمعنى: قدير على ما يقدر عليه، ولا شك أن هذا لا فائدة فيه.

فقولهم: قدير على ما يقدر عليه، معناه أنه لا يقدر على كل شيء، وأن هناك أشياء لا يقدر عليها -تعالى الله عن قولهم- فيكون في هذا تنقص، فالآيات فيها العموم، فهو على كل شيء قدير عموماً لا يستثنى منه شيء مما يدخل في الإمكان.

وأما كلامهم في المعدوم هل هو شيء أو ليس بشيء، فالمعدوم -على الصحيح- لا يقال له شيء حتى يوجد، ولكن الله تعالى عالم بما يوجد من المعدومات التي توجد، وقادر على إيجاده في الوقت الذي قدر إيجاده، وإلا فقد نفى أن يكون المعدوم شيئاً في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:١] ، وكذلك قوله تعالى مخاطباً لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:٩] يعني: لم تكن موجوداً، بل كنت معدوماً وقد خلقتك، فنفى أن يكون المعدوم شيئاً على الوجود، ولكن هو في علم الله شيء إذا قدر أنه سيوجد، فهو داخل في قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:٤٠] .

فالله تعالى أخبر بأنه إذا قال للشيء كن وهو معدوم كان، فسماه شيئاً مع كونه معدوماً؛ لأنه يوجد إذا قال الله له: (كن) ، وهذا معنى أن أمره تعالى بين الكاف والنون، فخلقه للمعدومات التي قدر أنها توجد بقول: (كن) ، وهكذا حقق المحققون أن المعدوم شيء في علم الله، وليس شيئاً في الوجود فيما يرى ولا فيما يشاهد.