للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شبهة المشركين في عبادتهم لغير الله]

قال رحمه الله: [وهؤلاء كانوا مقرين بالصانع وأنه ليس للعالم صانعان، ولكن اتخذوا هؤلاء شفعاء كما أخبر عنهم تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] ، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:١٨]] .

قد تقدم أن المشركين الأولين يعترفون بأن الخالق واحد وهو الله تعالى، حكى الله ذلك عن مشركي العرب في عدة آيات، ومنها قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:٨٤-٨٩] أي: هذا لله وحده، {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٩] ، وهذا يبين أنهم يعترفون بهذا، وأنه صار حجة عليهم، فاعترافهم بتوحيد الربوبية حجة عليهم في التوحيد الذي جحدوه وهو توحيد الإلهية {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٩] أي: كيف تصرفون عن عبادته وأنتم تعرفون أنه الذي يجير ولا يجار عليه، وأنه الذي بيده ملكوت كل شيء؟ وهو رب السماوات السبع، وهو رب العرش العظيم، وهو الذي له الأرض وله السماوات وله المخلوقات، ومع ذلك تعبدون غيره! أين عقولكم؟ فسئلوا لماذا تعبدون هذه المعبودات؟ فأخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] أي: نريد أن يقربونا إليه.

وكذلك في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:١٨] أي: ما نريد إلا شفاعتهم.

هذه مقالتهم، وهي بعينها مقالة عباد القبور وعباد الأولياء ونحوهم الذين يقولون: إنهم أناس ذوو فضل ومنزلة، والله يقبل منهم ولا يقبل منا، فإذا تقربنا إليهم أدخلونا على الله، وقبلت أعمالنا بسببهم.

ويضربون لذلك مثلاً بملوك الدنيا، فيقولون: إن ملوك الدنيا لا يوصل إليهم إلا بالشفعاء، فإذا أردت حاجة عندهم فإنك تتوسل بأحد الوزراء أو أحد الكتاب أو أحد الخدم حتى يدخلك عليهم ويشفع لك عندهم.

وهذا قياس فاسد؛ فإن الملوك بشر لا يعرفون ما في الضمير، ولا يعرفون الصادق من الكاذب، فيحتاجون إلى أن يقبلوا شفاعة من يعرفونه، والرب سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى من يعرفه، فإنه يعلم ما في الضمائر، ويعلم ما توسوس به النفوس، وهو عليم بذات الصدور، فلا حاجة إلى أن يشفع عنده أحد، وإن كان في الآخرة يأذن في الشفاعة لبعض عباده ويقبل شفاعتهم تكريماً لهم، ولكن بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥] .