للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وضوح كذب الكهان ونحوهم]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:٢٢١-٢٢٦] .

فالكهان ونحوهم - وإن كانوا أحياناً يخبرون بشيء من الغيبيّات ويكون صدقاً - فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن مَلَك، وليسوا بأنبياء، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن صياد: (قد خبأت لك خبيئاً، وقال: هو الدُّخ.

قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت كاهن.

وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يأتيني صادق وكاذب) .

وقال: (أرى عرشاً على الماء) ، وذلك هو عرش الشيطان.

وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي: الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كان ذلك مضراً له في العاقبة.

فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله، علم علماً يقيناً أنه ليس بشاعر ولا كاهن، والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة، حتى في المدعي للصناعات والمقالات، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة، أو علم النحو والطب والفقه وغير ذلك، والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟! ولا ريب أن المحققين على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضا الرجل وحبه وبغضه وفرحه وحزنه، وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه، قد لا يمكن التعبير عنها، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:٣٠] ، ثم قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:٣٠]] .

هذا الكلام يتعلق برسالة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكيف عرف أنه صادق، وذلك لأن المشركين رموه بالكذب، فمنهم من قال: ساحر كذاب، ومنهم من قال: كاهن، ومنهم من قال: شاعر.

ورد الله عليهم، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا} [الطور:٢٩-٣٠] يعني: انتظروا {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:٣٠] ، وأخبر بأنه ليس بشاعر فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] .

وذم الشعراء في هذه الآية فقال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:٢٢٤-٢٢٧] ، فإن هذا تنزيه لنبيه أن يكون شاعراً أو يعلمه الشعر، وتنزيه لهذا القرآن أن يكون شعراً، ولهذا قال في آية أخرى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:٤١-٤٢] ، وذلك لأنهم يقولون عنه: إنه من الكهنة.

لما رأوا الكهنة وسجعهم وإخبارهم بأشياء من المغيبات، ادعوا بأنه كاهن، والكاهن في الأصل هو الذي يدعي علم الغيب، أو يخبر عن المغيبات، أو يخبر عمَّا في الضمير، أو يدل على مكان المسروق ومكان الضالة واللقطة، وذلك بتنزل الشياطين عليه؛ فإن الشياطين تختطف السمع وتسترقه من السماء وتوحيه إلى أوليائها الذين هم السحرة والكهنة، كما أخبرالله تعالى بذلك في قوله: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِف الْخَطْفَة} [الصافات:٨-١٠] يعني: الكلمة يخطفها الشيطان من الملائكة فيستمعها، ثم يلقيها في أذن وليه الساحر أو الكاهن.

أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الشياطين تنزل؛ على أولئك الجهلة: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:٢٢١-٢٢٢] يعني: الكاهن، فـ (أفاك) أي: كذاب.

و (أثيم) : أي: آثم.

أي أنه من أهل الإثم الذي هو الزور والذنب العظيم.

قال تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} ، والسمع: ما يختطفونه من الملائكة ويلقونه إليهم، {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:٢٢٣] وقد وردفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في صفة أخذ الكاهن الكلمة من السماء: (فيلقيها إلى من تحته -يعني: الذي يخطفها- ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة) ، فالكاهن يستمع الكلمة التي سمعت من السماء، ويضيف إليها كذباً، وهذا معنى قوله تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:٢٢٣] ، فعرف بذلك أن الله تعالى نزه نبيه عن أن يكون بمتهم كالذين تتنزل عليهم الشياطين، وإنما أنزل عليه الملك بهذا الوحي المتتابع المشتمل على الحكم والأحكام مما يدل على أنه من حكيم حميد، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:٤٢] .

وذكر أيضاً من الكهنة الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم شاب من اليهود اسمه ابن صياد، ورد في شأنه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرها، حتى ظن بعض الصحابة أنه المسيح الدجال، واستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في أن يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لا يكن هو فلا خير لك في قتله) فإن كان الدجال فلا تستطيع أن تقتله؛ لأنه قد قدر الله أنه يخرج، وأنه يحصل منه ما سوف يحصل، فلن تسلط عليه.

أما إذا لم يكن هو فلا خير لك في قتله، ولكن القرائن دلت على أنه ليس هو الدجال، وإنما هو كاهن من الكهنة الذين تنزل عليهم الشياطين، وأخبر بأنه يرى عرشاً في الماء، وذلك هو عرش الشيطان، وأخبر بأنه يأتيه صادق وكاذب، يعني: يأتيه وسوسة من الشيطان أو وحي من الشيطان، فتارة يصدق وتارة يكذب.

وذلك وحي الشيطان، والشياطين يوحون كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:١٢١] ، فهناك وحي شياطين تنزل به إلى أوليائها.

ومما يدل على تكهنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله فقال: قد خبأت لك خبيئاًً.

قال: هو الدخ.

وكان قد خبأ له سورة الدخان، وفيها قوله تعالى: {فَارتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:١٠-١١] إلى آخره، فقال: (اخسأ فلن تعدو قدرك) .

فالحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزهه الله تعالى عن صفات هؤلاء وهؤلاء، وقد وصفه الله بصفات تدل على صدقه وصحة كلامه، وذلك لما يشتمل عليه كلامه من الانتظام ومن الإحكام، وكذلك موقع كلامه في القلوب؛ حيث إنه متى سمعه السامع أصغى إليه والتذ به، سواء كان من القرآن أو مما علمه الله تعالى.