للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم دعوى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغيّ وهوى) .

لما ثبت أنه خاتم النبيين علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب، ولا يقال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه؟ لأنا نقول: هذا لا يتصور أن يوجد، وهو من باب فرض المحال؛ لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين فمن المحال أن يأتي مدّع يدّعي النبوة ولا تظهر أمارة كذبه في دعواه.

والغي: ضد الرشاد، والهوى: عبارة عن شهوة النفس، أي أن تلك الدعوة بسبب هوى النفس لا عن دليل، فتكون باطلة] .

قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، أي: آخرهم، وبذلك نعرف أن كل من ادعى أنه نبي فدعواه غي، أي: خطأ ضد الرشد، فدعواه خطأ وباطل وضلال وبعيدة عن الصواب والصدق، فمن ادعى أنه نبي فهو كاذب ولو موه على الناس ولو أتى بما يخرق العادة، ولو أتى بما يعجز الناس ظاهراً، ولو فعل ما يفعله السحرة والمشعوذون ونحوهم وادعى أنه ينزل عليه الوحي، فنقول: هذه التي تراها من الشياطين، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم، فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض، وقد تنزل إلى أوليائها، وقد تخدع العبد وتصور له أنها من الله وأن ما تجيء به حق وأنه نبي، فيخيل إليه أنه ينزل عليه الوحي كما ينزل على الأولياء.

وقد وقع ذلك لمن تنزلت عليهم الشياطين، فروي أن رجلاً قال لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه! قال: (صدق، قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:١٢١] ) يعني أن الذي نزل عليه الشيطان، وهذا مع أنه صهره، إذ أخت المختار زوجة عبد الله، وهي صبية بنت أبي عبيد، فهذا مثال في أن الشياطين تنزل على بعض الناس، وتخدعهم بأنها وحي من الله، وأن ما تأتي به حق ونحو ذلك.

وقد ذكرنا الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنه سيكون بعدي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي) ، وأن بعض العلماء ذكر أن الذي خرج منهم سبعة وعشرون، وأن من آخرهم الكذاب الذي خرج من بعض البلاد الهندية وسمى نفسه (غلام أحمد القادياني) ، وتبعه وصدقه واقتدى به خلق كثير، وادعى أنه نبي، وخلق كثير قبله وصلوا إلى هذا العدد، والبقية لابد أن يأتوا كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وآخرهم الدجال الكذاب الذي يدعي أنه رب، ويأتي بشعوذة خارقة يجريها الله تعالى على يديه فتنة، إلا من ثبته الله تعالى وعرفه بالحق.

وعلى هذا نقول: لو أتى بما أتى به الدجال من كونه -مثلاً- يمر على القرية الهامدة الميتة فيصيح بأهلها فيتبعونه كيعاسيب النحل -والنحل لها يعسوب وهو كبيرها.

فهذا من الفتنة، ومن الفتنة أيضاً كونه يقتل الرجل حتى يقطعه قطعتين ثم يقول له: قم، فيقوم حياً، ومع ذلك لا يزيده إلا بصيرة ومعرفة بأنه الدجال الكذاب.

بهذا نعرف أنه قد يجري على يد بعض الكذابين شيء من الشعوذة وذلك من الشيطان، فالشيطان يموه على الأعين حتى يري بعض الناس أشياء شبه خارقة للعادة تشبه معجزات الأنبياء، كما يفعله بعض السحرة من كونه مثلاً قد يجر سيارة بشعرة من الشعر، أو يقف تحت السيارة ويحملها بيده أمام الناس والناس ينظرون، أو تمر السيارة على رأسه ولا تضره، ولا شك أن ذلك شعوذة على أعين الناظرين، ولا عبرة بمن أقر ذلك أو رآه، وقد حدث ذلك في عهد الصحابة، كما ذكروا أن ساحراً كان عند بعض ملوك بني أمية وكان يموه على الحاضرين، فيقطع رأس الإنسان ثم يعيده، فعمد بعض الصحابة إلى سيف احتضنه، فقرب من ذلك الساحر فلما وصل إليه ضربه بالسيف حتى قطع رأسه، وقال له: أحي نفسك إن كنت صادقاً.

ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف) ، فهذا جزاؤه حيث موه على الأعين، ولم يقدر على ذلك الصحابي -وهو جندب بن عبد الله البجلي - لما استعاذ من الشيطان ولما تحصن بالله تعالى، فلم يرد عليه فعل ذلك المشعوذ ولم يكتشفه.

فهذا مثال على أن ما يظهر على يدي بعضهم من الشعوذة ومن التمويه على الناس فهو من الشياطين التي تظهر أمام الناظرين في صور مختلفة حتى توهمهم بأشياء خارجة عن قدرة البشر ولا حقيقة لها.