للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اختلاف إنزال القرآن عن إنزال المخلوقات المعبر به في القرآن]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أورد على ذلك أن إنزال القرآن نظير إنزال المطر، وإنزاله الحديد، وإنزال ثمانية أزوج من الأنعام.

والجواب أن إنزال القرآن فيه مذكور أنه إنزال من الله، قال تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:١-٢] ، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:١] ، وقال تعالى: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:٢] ، وقال تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢] ، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:٣-٥] ، وقال تعالى: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:٤٩] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:١١٤] ، وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:١٠٢] .

وإنزال المطر مقيد بأنه منزل من السماء، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:٤٨] ، والسماء العلو.

وقد جاء في مكان آخر أنه منزل من المزن، والمزن السحاب، وفي مكان آخر أنه منزل من المعصرات، وإنزال الحديد والأنعام مطلق، فكيف يشبه هذا الإنزال بهذا الإنزال؟ فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال وهي عالية على الأرض، وقد قيل: إنه كلما كان معدنه أعلى كان حديدة أجود، والأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث، ولهذا يقال: أنزل ولم ينزل.

ثم الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الأرض، ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء، وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى سفل، وعلى هذا فيحتمل قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} [الزمر:٦] وجهين: أحدهما: أن تكون (من) لبيان الجنس.

الثاني: أن تكون (من) لابتداء الغاية.

وهذان الوجهان يحتملان في قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} [الشورى:١١] ،] .

ذكر الشارح هذا الاعتراض على آيات التنزيل التي وصف الله بها القرآن، فالله تعالى كلما ذكر القرآن ذكره بلفظ الإنزال ولم يذكره بلفظ الخلق، فلم يقل: (خلقنا القرآن) ، وإنما يقول: (أنزلنا) ثم يزيد على ذلك أنه منزل من الله أو من عند الله، ولا شك أن هذا يدل على الاختصاص.

وكلمة الإنزال تعرف العرب أن معناها لا يكون إلا من الأعلى، فإذا قيل: أنزله فالمعنى: جاء به من بعد أن كان رفيعاً.

تقول: أنزلت الدلو في البئر أو نزلته إذا دليته من أعلى إلى أسفل، وتقول: نزل فلان من السطح ومن الجبل ومن ظهر المركوب الذي هو راكبه، أي: نزل منه بعد أن كان مرتفعاً.

فلما كان الإنزال من العلو فالقرآن كذلك نازل من العلو، نازل من السماء، نازل من الله تعالى، منزل من ربك، فهذا حقيقة ما ذكر الله عن القرآن.

وليس مثل إنزال المطر، فإنزال المطر مقيد بأنه من السماء، أو بأنه من المزن، أو بأنه من المعصرات ونحوها، وإن كان الله هو الذي أنشأه وخلقه فيها، وإنزال الحديد معناه خلقه وإيجاده ولكن أوجده في علو ثم نزل إلى سفل، فالمعادن والمناجم عادة تكون في جوف الأرض، فهي مخلوقة في الجبال ثم تذوب وتنزل إلى جوف الأرض أو نحو ذلك، وكذلك قد يعثر عليها وهي في رءوس الجبال فينزلونها من الجبال، ولا شك أن ذلك كله إنزال حقيقي، فهو إنزال، ولكن لم يقل: إنه من عند الله، فحصل بذلك الفرق الكبير بين إنزالها وإنزال القرآن.