للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان دلالة قوله: (لن تراني) على ثبوت الرؤية والرد على المعتزلة]

وأما الآية الثانية التي استدل بها المعتزلة على إنكار الرؤية فهي في قصة موسى، ذكر الله أن موسى سأل الرؤية، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣] ، فاستدلوا بقوله: (لن تراني) على أنك لا تراني أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا تأويل خاطئ، وذلك لأن الآية إنما نفت الرؤية في الدنيا، وذلك لأن الإنسان في الدنيا خلقته ضعيفة لا يستطيع أن يمثل أمام عظمة الرب سبحانه وتعالى؛ فإن خلقةً في هذه الدنيا على هذه الهيئة خلقة ضئيلة ضعيفة لا تثبت أمام تجلي ربنا ولا أمام أنواره وجلاله وكبريائه.

وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بشيء من ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه) إلى قوله: (حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) يعني أن الحجاب في الدنيا حجاب النور أو النار لو كشفه لأحرق ذلك الضياء وذلك النور ما انتهى إليه من الخلق، فإذا كان كذلك فجميع الخلق في هذه الدنيا مخلوقون من هذا اللحم والدم على هذه الخِلْقة، فخِلْقتهم ضعيفة لا يستطيعون أن يمثلوا أمام هذه العظمة.

فهذا هو السبب في أن الله منع موسى الرؤية في الدنيا، ولكن هل يدل ذلك على أنه ممنوع من الرؤية في الآخرة؟ لا يدل على ذلك؛ لأن في الآخرة يعطي الله أولياءه من قوة الخلقة ومن عظمها ما يثبتون به أمام تلك الرؤية وأمام رؤية ربهم، فقد ورد أن كل من يدخل الجنة يوم القيامة على طول آدم، طوله ستون ذراعاً وعرضه سبعة أذرع، وإذا كانت هذه الزيادة في خِلقتهم في الطول والعرض فكذلك لا بد أنهم سيُزادون في قوة حواسهم وفي قوة أبصارهم وفي قوة أعضائهم حتى يتمكنوا من الثبوت أمام رؤيتهم لربهم، ولا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة، ولا ينالهم شيء من الضعف ولا مما ينالهم في الدنيا.

هذا هو السبب في أن الله منع موسى من الرؤية في الدنيا، وكذلك كل أحد في الدنيا لا يستطيع أن يرى ذلك؛ لقوله في الحديث: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) ، هكذا ورد في حديث عنه صلى الله عليه وسلم، أثبت بأن أحداً لا يستطيع أن يمثل أمام عظمة ربه ولا يرى ربه حتى يموت، وذلك في حديث الدجال لما أخبر بأن الدجال يأتي ويقول: (أنا الرب، أنا الله) ، فأخبر بأنه كاذب، وأنه لا يمكن في الدنيا أن أحداً يرى ربه، إنما الرؤية في الآخرة.

واستدل الشارح -كما سبق- بأن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية على أهلها.

ونقول: معلوم أن موسى نبي الله وكليمه الذي كلمه تكليماً، ومعلوم أنه اصطفاه، قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:٤١] ، فاصطفاه واختاره وأخبر بأنه كلمه تكلمياً، فهو من خيار أولياء الله، ومن خيار أنبياء الله ورسله، وقد أرسله إلى فرعون، وأرسله إلى بني إسرائيل وقد كلمه تكليماً، وأنزل عليه التوراة وقربه نجياً، فهو أعرف بربه، وهو أعلم بما يستحيل على ربه، فكيف تكونون -يا معتزلة- أعلم من موسى؟! هل يقال: إنك -يا فلان ويا فلان المعتزلي أو الجهمي- أعلم من موسى؟! حاشا وكلا، فهل الذي هو أحد أولي العزم، والذي هو أحد رسل الله، والذي ذكره الله وأكثر من ذكره في كلامه يكون أجهل منك، وتكون أنت أعلم منه بما يستحيل على الله وبما يجوز على الله؟! هذا مما تحيله العقول، وهذا مما لا يجوز في شرع الله.

كذلك ما أنكر أيضاً الله تعالى عليه حين قال: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣] لم ينكر عليه ولم يوبخه، وقد أنكر على نوح لما سأل نجاة ولده لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:٤٥] أنكر عليه وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:٤٦] ، أنكر على نوح هذا السؤال، ولكن موسى لما سأل فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣] ما أنكر عليه، بل قال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:١٤٣] ، فهل هذا دليل على أن هذا السؤال مستحيل؟ إنه ليس سؤال شيءٍ مستحيل.

وقال تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] ، ولم يقل: إني لا أُرَى.

أو: إني لا تجوز رؤيتي.

أو: إني لستُ بمرئي بل قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] ، والمعنى: لا تراني في الدنيا، ولا تستطيع رؤيتي في الدنيا، والفرق بين العبارتين واضح، ومثَّل لذلك المؤلف -كما سبق- بما إذا كان مع إنسان حجر وظننتَه رغيفاً فقلتَ: أطعمني من هذا فقال: لن تطعمه، فإنك تقول: إنه قد حَرَمني من هذا الطعام أما إذا قال: ليس بمطعوم أو ليس بمأكول أو لا يصح أكله أو ليس مما يؤكل، فهمتَ بذلك أنه اعتذر وأنه ليس من المأكولات.

فقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] يبين أن الرؤية جائزة؛ ولكنك لا تقدر عليها في الدنيا.

فهذا وجه قوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] .

ثم قوله: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] علق رؤية موسى على استقرار الجبل، أليس استقرار الجبل ممكناً؟ إنه ممكنٌ أن يستقر الجبل، والله تعالى قادر على أن يثبت الجبل حتى يستقر إذا تجلى له الرب، والله تعالى قد علَّق رؤية موسى على استقرار الجبل، والمعلَّق على الممكن ممكن، فهذا دليل على إمكان الرؤية، وأن رؤية الله ليست بمستحيلة، فالتعليق على الممكن ممكن.

أما قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:١٤٣] ، فقد تجلى الله كما شاء للجبل، ولما تجلى للجبل -وهو جبل الطور وهو من أكبر الجبال- انساخ الجبل، وذلك مع كونه جماداً، ومع كونه ليس به حركة، انساخ الجبل واندكَّ وخسف في الأرض، ولم يثبت، فعند ذلك صعق موسى، فالله تعالى تجلى للجبل، وإذا جاز أن يتجلى للجبل ألا يجوز أن يتجلى لعباده في الدار الآخرة، وأن يكرمهم بهذا التجلي وينعِّمهم ويزيد في كرامتهم؟! بلى فالقادر والممكن تجليه للجبل لا يستحيل عليه أن يتجلى كما يشاء لعباده في دار كرامته.

فعرفنا بذلك أن الآية دليل على إمكان الرؤية، ودليل على وقوعها، وأن الاستدلال بها على النفي استدلال عكسي، بل هي على الرؤية أدل منها على ضد الرؤية.

أما قوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] فيقول: إن كلمة (لن) تدل على النفي المؤبد في الدنيا والآخرة، يعني: (لَنْ تَرَانِي) أبداً!

و

الجواب

أن كلمة (لن) لا تدل على النفي المؤبد حتى ولو أُكِّدت بـ (أبداً) ، فالله تعالى يقول: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:٩٥] نفى أنهم يتمنون الموت، وقد ذكر أنهم يتمنونه في النار فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧] ، فهم يتمنون الموت، والله يقول: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:٩٥] ، إذاً المراد في الدنيا، فدل على أن النفي في الدنيا لا يعم النفي في الآخرة، فالنفي في قوله: (لَنْ تَرَانِي) نفي في الدنيا، فلا يعم النفي في الآخرة.

ولذلك يقول ابن مالك صاحب الألفية: ومن يرى النفي بـ (لن) مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا يعني: من يرى من النحاة أن النفي بلن يقتضي التأبيد فاردد قوله واعضد غيره من الأقوال، يعني: انصر القول الذي يرى أنها لا تقتضي النفي المؤبد.

ويقولون: إن الرؤية مستحيلة.

ويجاب عليهم بأنه لو كانت الرؤية محالة ما علقها على ممكن؛ فإن التعليق على شيء ممكن يدل على الإمكان، كما أن الله تعالى منزه عن الحاجة؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:١٤] ، وقرأها بعضهم: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يَطْعَمُ} [الأنعام:١٤] ، وقال تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:٥٧] ، فبين أنه سبحانه منزه عن الحاجة إلى الطعام والشراب ونحو ذلك، وذكر من نقص عيسى وأمه الحاجة إلى ذلك في قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:٧٥] يعني أنهما يحتاجان ويأكلان الطعام فدل على أن الله تعالى منزه عن الحاجة إلى ذلك.

فيقول الشارح: نحن والمعتزلة وغيرهم متفقون على أن الله ليس بحاجة إلى الأكل والشرب ونحو ذلك، وذلك من المستحيلات، فلا يمكن أن يُعَلَّق على شيء ممكن.