للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما ورد عن أهل الكلام يعرض على النص]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن المحال ألَّا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله ويحصل من كلام هؤلاء المتحيِّرين، بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهةً مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبِل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رُدَّ، وهذا مثل لفظ المركب والجسم والمتحيز والجوهر والجهة والحيز والعَرَض ونحو ذلك.

إن هذه الألفاظ لم تأتِ في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريد أهل هذا الاصطلاح بل ولا في اللغة، بل هم يختصون بالتعبير بها عن معانٍ لم يعبر غيرهم عنها بها، فتُفَسَّر تلك المعاني بعبارات أخر، ويُنظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل.

مثال ذلك في التركيب، فقد صار له معانٍ: أحدها: التركيب من متباينين فأكثر، ويسمى تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو ونحوه من صفات الكمال أن يكون مركباً بهذا المعنى المذكور.

الثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب.

الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى الجواهر المفردة.

الرابع: التركيب من الهيولى والصورة، كالخاتم مثلاً هيولاه الفضة وصورته معروفة، وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول ولا فائدة فيه، وهو أنه هل يمكن التركيب من جزئين، أو من أربعة، أو من ستة، أو من ثمانية، أو ستة عشر؟ وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه، والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء، وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه.

الخامس: التركيب من الذات والصفات، هذا سمَّوه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يُعرف في اللغة ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة، ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سمُّوه بما شئتم، فلا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطُلح على تسمية اللبن خمراً لم يحرم بهذه التسمية.

السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج هل يمكن ذات مجردة عن وجودها ووجودها مجرد عنها، هذا محال! فترى أهل الكلام يقولون: هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟ ولهم في ذلك خبط كثير، وأمثلهم طريقةً رأي الوقف والشك في ذلك، وكم زال بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل] .

قد علمنا أن الشرع الشريف كامل في جميع ما يحتاج إليه البشر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن للأمة ما تحتاج إليه، وبالأخص ما يقولونه بألسنتهم وما يعتقدونه بقلوبهم في صفات ربهم، ولا يليق أنه علمهم الفروع وترك الأصول، بل الأصول أولى بالتعليم، فعلمهم الأصول التي هي العقائد ما يقولونه في ربهم بألسنتهم وما يعتقدونه بقلوبهم قبل أن يعلمهم الأوامر والنواهي ونحو ذلك، وذلك لأن العقيدة سبب الأعمال، والذي لا تكون معه عقيدة لا ينبعث جسمه بالعمل، فإذا رسخت العقيدة التي هي معرفة الرب سبحانه ومعرفة عظمته وكبريائه وجلاله في القلب أورثت أعمالاً، وأورثت الخوف منه ورجاءه ومحبته والخضوع والخشوع له والإخبات والإنابة والتوبة والرجوع إليه، وأورثت تعظيمه وتأليهه ودعاءه وعبادته.

فإذا انتفت هذه المعرفة من القلب انتفت العبادة، ونحن نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان أكثر الناس أعمالاً وأتمهم خشوعاً وأتمهم تذللاً، فما الذي حملهم على ذلك؟ أليس هو قوة المعرفة؟ أليس هو قوة العقيدة؟ أليست العقيدة رسخت في قلوبهم وهي معرفة ربهم؟ إذاً فنحن نحث المسلم على أن يقوي عقيدته، فنقول قوِّ عقيدتك، وتعلم ما ترسخ به عقيدتُك في قلبك، وقوِّ العقيدة التي هي معرفة الله ومعرفة عظمته ومعرفة جلاله وكبريائه، واحرص على ترسيخ هذه العقيدة في قلوب أولادك وفي قلوب إخوتك وفي قلوب المسلمين؛ فإنها متى رسخت أثمرت، وآتت أكلها وأثمرت العبادات الكثيرة التي هي فعل الصالحات وترك المحرمات.