للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المتشابه في القرآن والمراد به]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: إن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور ويروى هذا عن ابن عباس، مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كان معناها معروفاً فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً وهي المتشابه كان ما سواها معلوم المعنى وهذا المطلوب.

وأيضا فإن الله قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:٧] ، وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين.

والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك، وهذا هو التأويل الذي يتنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية، فالتأويل الصحيح منه الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه.

وذكر في التبصرة أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن محمد بن الحسن رحمهم الله أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه فقال: نمرها كما جاءت ونؤمن بها، ولا نقول: كيف وكيف.

ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم وقيل: عليَّ نحت القوافي من أماكنها وما عليَّ إذا لم تفهم البقر فكيف يقال في قول الله الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث، وهو الكتاب الذي {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:١] .

إن حقيقة قولهم أن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال، وأنه ليس فيه بيان لما يصلح من الاعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه، هذا حقيقة قول المتأولين، والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه، والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه، فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة حقيقة، فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين لا تقدرون على سده.

فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟ فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه وإلا أقررناه، قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع، ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى، وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام.

ويلزم حينئذ محذوران عظيمان: أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيئول الأمر إلى الحيرة.

المحذور الثاني: أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول؛ إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصةُ النبي هي الإنباء، والقرآن هو النبأ العظيم، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه، وإن خالفته أولوه، وهذا فتح باب الزندقة والانحلال، نسأل الله العافية] .

قد تقدم أن الله ذكر في القرآن: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:٧] ، ومعلوم أن المفسرين قد تكلموا على الآيات كلها، وعلى القرآن كله، ولم يسكتوا عن آية أو آيات فقالوا: هذه من المتشابه، إلا أن بعضهم لا يتكلمون على الحروف المقطعة التي في أوائل السور، وكثير منهم تكلموا عليها، وقالوا: يراد بهذا كذا وكذا، وإن اختلفت الآراء فيها.

وما دام أن القرآن قد فسر كله فهذه الآيات المتشابهات يظهر أنها الكيفيات للأمور الغيبية، أعني الأشياء التي أخبر فيها عن أمور غيبية ولكنا لا نعلم كيفيتها، فإذا أخبر الله أن في الجنة أنهاراً تجري فإنا لا ندري ما كيفية تلك الأنهار كقوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:١٥] إلى آخر الآية، وفي الحديث أنها: (تجري في غير أخدود) أي: تجري على وجه الأرض ومع ذلك لا تسيح، وهذا من علم الغيب الذي نقول: الله أعلم بكيفيته.

وهكذا أيضاً الأشجار التي في الجنة، وكذلك الأشجار التي في النار، ذكر الله أن في النار شجرة الزقوم، فلا ندري ما كيفية تلك الشجرة، وكيف لا تحترق بالنار، وكل هذا نقول فيه: الله أعلم، فهو من المتشابه.

فالكيفيات الغيبية هي التي يتوقف عنها، ويقال: الله أعلم بكيفيتها فهي من المتشابه.

ويقال أيضاً كذلك في كيفيات صفات الله، فنحن لا ندري ما كيفيتها إلا أنَّ نتحقق معانيها، فنتحقق أن الله متكلم بكلام يسمع، ونتحقق أن الله يعلم الخفي والجلي ويسمع القريب والبعيد وهكذا، ولكن كيفية تلك الصفات نفوضها ونقول: الله أعلم بها.

وهذا أقرب الأقوال في الآيات المتشابهات، أي: أنها كيفيات الأمور الغيبية.