للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إثبات صفة علو الله تعالى على خلقه]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني: سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاذ -بعد روايته حديث النزول- يقول: سئل أبو حنيفة فقال: ينزل بلا كيف.

انتهى.

وإنما توقف من توقف في نفي ذلك لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، ولا داخل العالم ولا خارجه.

فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء على العرش.

ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود، ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.

وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (محيط بكل شيء وفوقه) إن شاء الله تعالى] .

من صفات الله سبحانه وتعالى أنه القاهر فوق عباده، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:١٨] ، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:٥٠] ، فيؤمن العباد بهذا القهر الذي مقتضاه الغلبة والإحاطة، والقهر: هو قوة الغلبة، بمعنى أنه غالب متصرف في العباد ليس لهم قدرة على التصرف في أنفسهم بدون اختيار الله وقضائه وتدبيره.

ومن صفاته سبحانه أنه هو العلي بجميع أنواع العلو، علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، وكذلك فوقية القدر وفوقية القهر وفوقية الذات، ولا شك أن هذه الصفات قد دلت عليها الأدلة السمعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي مرجع الإسلام في الاستدلال، فمرجع المسلمين في استدلالهم على صفات ربهم هذه النصوص الثابتة المنقولة عن نبيهم نقلاً ثابتاً متواتراً.

ولاشك أن هذا الإثبات للفوقية بجميع أنواعها يستلزم أن يكون الرب سبحانه وتعالى بكل شيء عليم؛ فإنه إذا كان قاهراً لعباده وقادراً عليهم وعالماً بهم ومطلعاً عليهم، ويرى صغيرهم وكبيرهم وخفيهم وجليهم، كان ذلك دالاً على عظمته وعلى إحاطته.

والمخلوقون حقيرون بالنسبة إلى عظمة ربهم، فالمخلوق الذي هو الإنسان جزء صغير من مخلوقات الله، والأرض التي نحن عليها والسماوات التي فوقنا ومحيطة بنا جزء صغير أيضاً من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:٦٧] ، فإذا كانت الأرض قبضته، والسماوات مطويات بيمينه فما مقدار الإنسان؟! وما قدره في هذا الكون؟! قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السماوات والأرض في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم، وحبة الخردل هي أصغر ما يُتَصَوَّر من الحبوب، فالخردل شجر معروف وحبه صغير جداً، فيقول: إذا قبض أحدكم حبة خردل في كفه هل يحس بأنها تشغل مكاناً؟! كذلك السماوات السبع والأرضون السبع يقبضها الله وكأنها حبة خردل في يد أحدكم.

فإذاً هذا دليل على العظمة، وأن علوه سبحانه وتعالى فوق عباده لا ينافي علمه، ولا ينافي اطلاعه، ولا ينافي علمه بعباده، ولا ينافي رؤيته لهم وقربه منهم وهيمنته عليهم ونظره إليهم وعلمه بأحوالهم وبأقوالهم وسماعه لأصواتهم، وما أشبه ذلك، ألا يكون العبد مستحضراً لذلك في كل حالاته حتى يعبد ربه غاية العبادة، وحتى يخافه غاية الخوف، إذاً فمن أصل عقيدة أهل السنة الاعتقاد بالفوقية لله، وأن ذلك لا ينافي علمه وقربه واطلاعه على عباده.

كذلك عليه أن يعرف العقائد الفاسدة فيجتنبها، أو يركز على عقيدة السلف والأئمة وأهل السنة ويعرض عما سواها من عقائد المبتدعة، كوحدة الوجود والحلوليين ونحوهم من الفرق الضالة الذين أنكروا علو الله وقالوا: إنه لا فوق ولا تحت، ولا مباين ولا محايث.

أو: إن وجوده هو وجود الكون، أو: إنه حال في المخلوقات بذاته -تعالى الله عما يقولون-، فكل أولئك لم يثبت الإيمان في قلوبهم ولم ترسخ معرفة الله وعقيدة الإسلام في أفئدتهم، فوسوس إليهم الشيطان أن ذات الله حالة فيكم أو في كل مكان، أو أن وجوده هو وجود الكون أو ما أشبه ذلك، يريدون بذلك أن يبرروا مذاهبهم، فعلى المسلم أن يعرف العقيدة السليمة وأن يعتقدها ويتعبد لله تعالى بموجبها.