للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[انتظام العالم وإحكام خلقه دليل على وحدانية خالقه]

قال رحمه الله: [فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودا في الناس بيَّن القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:٩١] ، فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لابد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلابد من أحد ثلاثة أمور: أما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.

وإما أن يعلو بعضهم على بعض.

وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.

وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره من أدل دليل على أن مدبره إله واحد وملك واحد ورب واحد لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه، كما قد دل دليل التمانع على أن خالق العالم واحد لا رب غيره ولا إله سواه، فذلك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان] .

حين نتأمل الآيات التي جاءت في التدليل على توحيد الربوبية فإننا نجدها كثيرة، يقرر الله تعالى توحيد الربوبية، وذلك بذكر خلقه للمخلوقات، كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧] ، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى:٢٩] ، وكقوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان:١٠] إلى قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:١١] تقرير هذه الآيات للتوحيد يتبين منه أن هذا يراد به نتيجته، وهي أن من عرف أن الله تعالى واحداً في ربوبيته لم يعبد معه غيره، وقد ذكرنا أن ابن كثير قال عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:٢١] قال: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.

فمن ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنون: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:٩١] فالله تعالى ما اتخذ من ولد؛ إذ لو كان له ولد - تعالى عن ذلك- لكان الولد يشارك أو يشابه أباه، والله منزه عن ذلك، (وما كان معه من إله) فلو كان معه إله لزاحمه في الخلق، وفي التدبير، وفي التصرف، وفي الملكية، وهذا معنى قوله: (إذاً لذهب كل إله بما خلق) .

ومن المشاهد أن ملوك الدنيا يتنافسون، وكل منهم يحب أن يكون هو الأقوى وهو المسيطر، وقرأنا عن بعضهم أنه لما قتل قريباً له بسبب الملك قال: إن هذا من أحب الناس إلي ولكن الملك عقيم.

يعني: لا أريد من يزاحمني في الملك.

فإذا كان هذا في حق ملك من ملوك الدنيا فبطريق الأولى أن يقال: إن الله تعالى لا شريك له، فلو كان له شريك في الخلق والملك لزاحمه ولظهرت آثار هذه المزاحمة، وهو معنى قوله: (إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) يعني: لو كان معه آلهة لكان كل إله ينفصل عن الآخر بخلقه ويعتزل، ويحاول أن يكون له السيطرة، وأن يكون له العلو على الآخر، وأن يكون هو المتمكن.

وإذا نظرنا فيما حولنا فإذا الأمر منتظم، وإذا هذا الخلق وهذا العالم يسير على هيئة وحالة واحدة لا يختل، ولا يقع فيه تغير، وهذا أكبر دليل على أن الذي خلقه ليس له شريك، وأنه ليس له مزاحم وليس معه إله آخر، وإلا لذهب كل خالق أو كل إله بخلقه وانفصل كما يحصل من ملوك الدنيا، فإن ملوك الدنيا -كما هو مشاهد- كل منهم ينفصل في مملكته -مع أنها ملكية مؤقتة- وكل يدبر مملكته خاصة، بل كل يحاول التغلب على الآخر، وهذا ونحوه دليل على أن الخالق واحد.

وتسمى هذه الآية دليل تمانع، ودلالة التمانع يقول بها المتكلمون، فيستدلون على أن الخالق واحد بدلالة التمانع، فقالوا: لو كان للعالم خالقان متساويان فأراد أحدهما تحريك الجسم وأراد الآخر تسكينه، أو أراد أحدهما إحياءه وأراد الآخر إماتته فإما أن يحصل مراد واحد دون واحد، فيكون أحدهما قادراً والآخر عاجزاً، وإما أن يحصل مرادهما جميعاً وهو محال، وإما أن لا يحصل مراد واحد منهما أيضاً وهو محال، فإذا حصل مراد واحد منهما فهو القاهر الغالب، والذي لم يحصل مراده عاجز لا يصلح أن يكون إلهاً ولا خالقاً، وكذلك ما جاء في الآية، فلو كان معه إله لاستقل كل إله بما خلق (ولعلا بعضهم على بعض) ، فلما لم يحصل ذلك دل على أن الخالق واحد.