للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلام على معنى الميثاق المأخوذ وعلى خلق الروح والجسد]

قال رحمه الله تعالى: [ومن هنا قال من قال: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقاً مستقراً ثابتاً، وغايتها أن تدل على أن بارئها وفاطرها سبحانه صوَّر النسَمة وقدَّر خلقها وأجلها وعملها، واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها وقدَّر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا يدل على أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودةً ناطقةً كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملةً بعد جملة كما قاله ابن حزم، فهذا لا تدل الآثار عليه.

نعم.

الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولاً، فيجيء الخلق الخارجي مطابقاً للتقدير السابق، كشأنه سبحانه في جمع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقداراً وآجالاً وصفاتٍ وهيئاتٍ، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقةً لذلك التقدير السابق.

فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم، وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهما، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ومعنى قوله: (شَهِدْنَا) أي: قالوا: بلى، شهدنا أنك ربنا، وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب.

وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضَهم على بعض.

وقيل: (شَهِدْنَا) من قول الملائكة، والوقف على قوله: ((بَلَى)) وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي.

وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم.

والأول أظهر، وما عداه احتمال لا دليل عليه، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول.

واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، كـ الثعلبي والبغوي وغيرهما.

ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركَّبها الله فيهم، كـ الزمخشري وغيره.

ومنهم من ذكر القولين، كـ الواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة والثاني إلى المعتزلة] .

في هذه الأحاديث أو في بعضها ما يُفهم أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، وأن الذي خاطبها بقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) هي الأرواح.

ومن عقيدة أهل السنة أن الأرواح مخلوقة، فليست قديمة كما يقول الفلاسفة ونحوهم، بل هي مخلوقة خلقها الله بعد أن لم تكن، وذلك لأن الإنسان مركب من جسد وروح، والروح هي التي تحيا بها الأجساد، وإذا خرجت الروح مات الجسد، فهل الروح مخلوقة قبل الجسد أم مخلوقة مع الجسد؟ والصحيح أنها مخلوقة عندما خلق الله الجسد، فكلما خلق جسداً خلق له روحاً، وكلما مات ذلك الجسد بقيت روحه إما معذبة وإما منعمة إلى أن ترجع إليه في الآخرة.

وربما يأتينا شيء يتعلق بخلق الأرواح.

وعلى كل حال فالآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:١٧٢] هناك من يقول فيها: إن الله أخرجهم من آدم، وأخذ عليهم العهد، وأشهدهم على أنفسهم، وإنهم قالوا: بلى.

ولعلك أن تقول: إننا لا نتذكر هذا الميثاق، ولا ندري ولا نعرف متى أُخرجنا، ولا ندري هل قيل لنا ذلك القول أم لا؟ فلذلك يقال: إن هذه هي الفطرة، وإن هذا الإشهاد هو ما فطروا عليه من المعرفة، وإن قولهم: (بَلَى شَهِدْنَا) يعني: شهدنا أن ربنا هو الذي خلقنا، فيكون ذلك خطاباً للأرواح قبل خلق الأجساد.

ومن العلماء من قال: إن هذا وإن لم يتذكره كل إنسان، لكنه حق وواقع، وإن لم يكن هناك ذاكرة عند كل إنسان.

ولعل القول الأول أن ذلك هو الفطرة التي فطروا عليها هو الأقرب.

ومن المفسرين من اقتصر على مدلول الأحاديث، فجعل الآية مفسَّرة بالأحاديث، فمعناها: أخرجهم من آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وردهم في صلب آدم، وأخرج منه أولاده، وأخرج من أولاده أحفاده -أي: أولادهم- وهكذا تسلسلت الولادة إلى ما شاء الله تعالى، إلى أن يحصل وجود من قدر الله خلقه إلى يوم القيامة.

ومن العلماء المفسرين من اقتصر على ذكر الفطرة، وأن المراد بالإشهاد هنا هو ما قذف في قلوبهم من المعرفة ومن الفطرة التي فطر الناس عليها.

ومنهم من ذكر القولين، والكل مجتهد، وكلٌّ اختار ما يناسبه.

فالذين تخصصوا في النقول وفي الحكايات ونحوها اقتصروا على الميثاق الذي ورد في الأحاديث.

والذي فسروا بالرأي أو فسروا بالاستنتاج ذكروا أيضاً الفطرة.

والرواية التي فيها أن الله تعالى أشهدهم وأنهم قالوا: شهدنا وتكلموا، يقول الشارح عنها: إنها موقوفة ليست مرفوعة، ويمكن أنها مما نُقل من كتب بني إسرائيل التي لا تُصدَّق ولا تكذَّب، إنما تقبل إذا وافقت النقل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما جاء في كتاب الله تعالى.

فعلى هذا نحن نعتقد معنى الآية إجمالاً، وإذا ثبتت لنا الأحاديث اعتقدناها ووكلنا كيفيتها إلى الله سبحانه.