للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قيام الحجة في توحيد الربوبية بالفطرة والعقل]

فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربيه والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه - على الصحيح - حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح؛ فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف:٣٨] وقال ليعقوب بنوه: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:١٣٣] ، وإن كان الآباء مخالفين للرسل كان عليه أن يتبع الرسل كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:٨] الآية.

فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه؛ فهذا اتبع هواه كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:١٧٠]] .

يقول الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:١٥٦] ، ويقول: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:١٧٣] ، فمقالة المشركين لابد أن تكون إحدى هاتين المقالتين.

والطائفتان هم اليهود والنصارى الذين أنزلت عليهم التوراة والإنجيل، والمشركون يقولون: أشرك آباؤنا واتبعناهم، فكأنهم يقولون: العذاب عليهم لا علينا.

والجواب أولاً: أن الله فطركم على التوحيد وعلى معرفته، ورتب فيكم العقول بحيث تعرفون أن لكم خالقاً، وأن خالقكم له عليكم حقوق.

وثانياً: إذا عرفتم أن هذا الدين الذي عليه آباؤكم -وهو الشرك- باطل، فلا بد أن تبحثوا عن الدين الصحيح وهو الذي خلقتكم له، ولكنكم لم تفعلوا، بل اتبعتم آباءكم وأطعتم كبراءكم، وكنتم بذلك مستحقين للعذاب، قال الله تعالى عن أهل النار: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ} [الأعراف:٣٨] أي: قال الأبناء للآباء: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:٣٨] أي: لا ينفعكم كونهم الذين أضلوكم، فكان يجب عليكم ألا تقبلوا هذا الضلال.

ويقول تعالى في آية أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:٢٧-٢٨] يعني: تضلوننا وتسعون في إضلالنا، إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:٣٣] مع أن الآباء هم السبب في ضلال الأبناء؛ ولأجل ذلك كان الواجب على الآباء أن يفكروا وألا يضلوا بعد أن أعطاهم الله فكراً وعقلاً، وعلى الأبناء أيضاً أن يستعملوا فطرتهم وعقلهم وألّا يقبلوا كل ضلالة أو كل بدعة.

وقد حكى الله تعالى أنهم يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض؛ فالمتبوع يتبرأ من التابع، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:١٦٦-١٦٧] ، الأتباع هم الذين تبرأ منهم المتبوعون ولكن لا ينفعهم ذلك بعد أن أضلوهم.