للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين المشيئة والإرادة]

يقول: إن الذين ضلوا في هذا الباب سووا بين المشيئة والإرادة، والصحيح أن بينهما فرقاً: فإن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية وإرادة قدرية.

فالإرادة القدرية هي بمعنى المشيئة، والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، فالله تعالى أراد الطاعات شرعاً وأحبها، وأراد المعاصي كوناً وكرهها ولم يحبها، ولكنه قدرها وأرادها وشاءها، ولو لم يشأها لم تكن، ولكنه ما رضيها ولا أحبها، بل كرهها وتوعد عليها ولو كانت بمشيئته وبقدرته وبإرادته الكونية حتى لا يكون في الوجود ما لا يريد، وحتى لا يعصى ربنا قسراً عليه.

فنعرف بذلك أن هناك فرقاً بين المشيئة والإرادة، أي: الإرادة الشرعية، فالإرادة الشرعية هي كونه تعالى يريد الطاعات، يعني: شرعها وأرادها وأحبها.

وقد ذكر الله هذه الإرادة في مواضع كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥] ، فهذه إرادة شرعية، وكذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} [النساء:٢٦] {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:٢٧] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:٢٨] ، فهذه الإرادات شرعية.

نقول: إن الله تعالى أراد الطاعات شرعاً، فأراد من الخلق كلهم الإيمان شرعاً، وأراد منهم الطاعات، فأراد منهم أن يصلوا، وأراد منهم الصيام، والصدقات، والزكوات، والجهاد، والحج، والعمرة، والذكر، والقراءة، والبر والتقوى، أراد هذا منهم شرعاً، وأحب هذه الطاعات، وأراد منهم ترك المعاصي شرعاً، وكره منهم تلك المعاصي؛ فهذه إرادة شرعية وهي تستلزم المحبة للمراد.

فإذا شرع الله شيئاً وأراده شرعاً فإنه يحبه ولو لم يكن، فيحب الإيمان من الخلق كلهم ولو لم يحصل إلا من بعضهم، ويحب الصلوات من الناس كلهم ولو أن بعضهم ما حصلت منه الصلاة، ويحب الصوم، ويحب الصدقات، ويحب الجهاد، ويحب التوبة، ويحب الاستغفار، ويحب الأذكار، ويحب التلاوة، يحب ذلك منهم وقد أراده شرعاً، ولكنه لم يحصل إلا من البعض وهم المسلمون المؤمنون.

فهذه إرادة شرعية، وهي التي ذكرنا أن الله تعالى يحب ما يترتب عليها، ولكنها لا تستلزم وجود المراد، فقد يريد شرعاً أمراً ولكنه لا يحصل لكونه ما أراده قدراً، فمثلاً: أراد من الكفار الإيمان شرعاً ولم يرده قدراً، فلذلك لم يحصل، وأراد من العصاة أن يطيعوه ولكنه لم يرده قدراً ولم يشأه، فلذلك لم يحصل، هذا معنى الإرادة الشرعية.

أما الإرادة الكونية: فهي التي لا بد أن يقع مرادها، وقد ذكرت في آيات كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:١] وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} [الأنعام:١٢٥] {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:١٢٥] ، فهذه إرادة كونية، أي: مكتوبة في الكون وفي الأزل، وهي القدرية، وهي التي يقع المراد بها، وإن لم يكن محبوباً، فليس كل ما يريده الله من هذه الكائنات يكون محبوباً، فلذلك نقول: إنه أراد المعاصي كوناً ولكنه لا يحبها، وأراد الكفر كوناً ولكنه لا يحبه ولم يرده شرعاً، ومع ذلك لو لم يشأه لما حصل، فإنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد ولمّا لم يحبه ولم يأمر به شرعاً بل كرهه، كان مترتباً عليه العقاب!