للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأخذ بالأسباب]

الله تعالى قد ذكر قوماً هربوا من الموت ثم إن الله أماتهم، في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:٢٤٣] ألوف: جمع ألف، يعني: آلافاً مؤلفة، (حذر الموت) : ما أخرجهم إلا حذر الموت، ولكن هل سلموا؟ {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:٢٤٣] ، أي: أن قدرة الله تعالى تأتي على كل شيء، فأماتهم الله ليريهم أن الخروج والهرب لا ينجيهم، ثم أحياهم بقدرته ليريهم كامل قدرته.

وعلى كل حال نحن نقول: إن الإنسان مأمور بأن يتحصن وبأن يفعل الأسباب وبأن يأخذ حذره، ولكن ذلك لا يرد عنه ما قد كتب الله عليه من الآجال والأمراض والعاهات ونحو ذلك، وإنما هذه أسباب ظاهرة، ولا يجوز مع ذلك تركها.

الله سبحانه أمر بأخذ الحذر في حالة صلاة الخوف، فلما أمر بصلاة الخوف أمر بأخذ الحذر، معلوم أن المسلمين قد يقول قائلهم: سوف نصلي جماعة والله تعالى يحرسنا ويحفظنا، ولكن الله تعالى أخبر بأن المشركين يتحينون الفرص ويحتالون في أن يجدوا غفلة من المؤمنين فيقتلونهم، فقال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:١٠٢] ، هكذا أخبر عنهم ثم أمرهم بأن يأخذوا الحذر في قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:١٠٢] ، {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:١٠٢] يعني في حالة صلاتهم للخوف، {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء:١٠٢] أي: ليكونوا حذرين.

فكل ذلك دليل على أن فعل السبب لا يمنع في التوكل وأنه لا يرد ما قدر الله، مع أن فعل الأسباب مأمور به وتركها إلقاء باليد إلى التهلكة، وأن التعرض أو فعل الأسباب التي يحصل بها الموت عمداً يصير ذنباً كبيراً، ولهذا ورد الوعيد الشديد على من قتل نفسه بفعل ظاهر، كما في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تحسى سماً فسمه في يده يتحساه في نار جهنم) تحساه، أي: التهمه، فمن التهم سماً فإنه يدخل جهنم ويجعل السم في يديه يتحساه دائماً في نار جهنم والعياذ بالله (ومن تردى من شاهق) يعني: رأس جبل حتى يموت (فهو يتردى في نار جهنم) والعياذ بالله، فهذا دليل على أنه إذا فعل سبباً يعوقه أو يصل إلى أنه يقتل به نفسه فإنه معرض لهذا الوعيد.

ولو قال مثلاً: إن هذا مكتوب علي وإن هذا مقدر، نقول: الله تعالى هو الذي قدر كل شيء ولكنه نهاك عن شيء أنت تستطيعه، فنهاك أن تلقي بيدك إلى التهلكة ونهاك عن هذه المعاصي، ونهاك عن هذه المخالفات وأمرك بأضدادها، وما أمرك إلا بأمر أنت مستطيع له، ولو كان كل ذلك واقع بقضاء وبقدر.