للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التصديق الذي في القلب يتفاوت]

التصديق الذي في القلب يتفاوت، فقد عرفنا خبر صاحب البطاقة الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يدعى وله تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، مكتوب فيها سيئاته، لا يدرك أعلاه البصر؛ فيعترف بذلك كله، ثم يخرج له بطاقة صغيرة مكتوب فيها الشهادتان، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة؛ لماذا؟ لأن هذه الشهادة صدرت من صميم قلبه، صدرت وهو موقن بها يقيناً صادقاً وإيماناً قوياً، فلما قالها بهذه النية وبهذه العقيدة محت جميع ما سبقها، وكفرت السيئات كلها، وأحرقتها إحراقاً مزيلاً لأثرها، فلم يبق لها جرم تزن به، فكانت هذه الشهادة هي التي ثقلت بتلك الأعمال.

واستدل الشارح بقصة الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً، ثم سأل: هل له من توبة؟ فأفتاه عابد بأنه لا توبة له، فقتله وتمم به المائة، ثم سأل بعد ذلك فدله العالم على قرية بها أناس صالحون، فجاء إليها مهاجراً فاراً بدينه، فأدركه الموت وهو في الطريق، فلما أدركه الموت كان من محبته لتلك القرية أن أخذ ينأى بصدره ويقرب إليها، فكان فعله هذا دليلاً على قوة إيمانه وقوة تصديقه؛ مما جعله يلحق بأهل تلك القرية وتقبل توبته، فهذا دليل على أن الإيمان إذا كان قوياً في القلب ظهرت آثاره وظهرت علاماته.

واستدل -أيضاً- بقصة امرأة بغي -يعني: زانية- كانت تكثر من الزنا، ثم إنها تابت، ولما رأت كلباً يلهث على ركية يكاد يموت عطشاً، نزعت موقها -يعن: خفها- وملأته ماءً وسقت ذلك الكلب، فشكر الله لها فغفر لها، وذلك دليل على أن رحمتها بهذه البهيمة ورجاءها من الله المغفرة هو الذي حملها على ذلك، فتعلق قلبها بربها أنه الذي يثيبها على هذا العمل، فكان هذا العمل الصادق الخالص نابعاً من إيمان قوي وتصديق ثابت، فأصبح مكفراً لهذه السيئات التي سبقت.

وبكل حال: فالأعمال التي تكون على البدن، إذا كان البدن عاملاً بها زاد الإيمان الذي في القلب، وزاد الإيمان الذي هو من مسمى الإيمان، فإن تكلم بكلمة من الخير زاد إيمانه، وإن تكلم بكلمة شر أو سوء نقص إيمانه، وإذا أنفق لله تعالى درهماً أو ديناراً أو شيئاً يبتغي به وجه الله زاد إيمانه، وإن أنفقه فيما يسخط الله من لهو وباطل وكفر وضلال نقص إيمانه، وإن مشى خطوات إلى ذكر وإلى مسجد وإلى علم وإلى عبادة من العبادات زاد إيمانه، وإن مشى خطوة أو خطوات إلى لهو وباطل ولعب ومعصية من المعاصي وما أشبهها فمشيه هذا ينقص إيمانه.

ومعلوم أن الصلوات تزيد الإيمان، وأن أكل الحرام ينقص الإيمان، وأن النكاح الحلال بالنية يزيد الإيمان، والنكاح الحرام ينقص الإيمان، وكذلك الكسب الحلال والنفقة منه يزيد الإيمان، والكسب الحرام والنفقة منه ينقص الإيمان، ويقال كذلك في الكلام السيئ والكلام الحسن: فالذكر بأنواعه والدعاء والأمر بالخير وتعلم العلم وتعليمه يزيد به الإيمان، وتعلم الباطل والسوء والكلام السيئ والسباب والشتائم ونحوها ينقص الإيمان وهكذا.

فعلى المسلم أن يتفقد نفسه ويتفقد أعماله، ويحرص على أن يكون في زيادة لا في نقصان.