للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجواب عن استدلال الحنفية بعطف العمل على الإيمان في قولهم بأن العمل ليس من الإيمان]

هذا جواب عما استدل به الحنفية من عطف العمل على الإيمان، فيقولون في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:٢٢٧] : لو كانت الأعمال من الإيمان ما عطفت عليه، فعطفها عليه يقتضي أنها ليست من الإيمان، بل هي غيره، فالإيمان عندهم هو ما في القلب، والأعمال شيء زائد على الإيمان.

هكذا قرروا هذا الدليل.

ومر بنا جواب الشارح، وكذلك أجاب غيره، حيث ذكر أن الإيمان تارة يكون مستقلاً، يعني غير معطوف عليه بشيء، وتارة يعطف عليه، فمثلاً قوله تعالى في سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:٢] ، هذا تفسير للمؤمنين بأنهم أهل هذه الخصال، ومثله قوله تعالى في سورة السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة:١٥] ، فهذا دليل على أن هؤلاء هم المؤمنون، ويكون من إيمانهم هذا السجود والتسبيح ونحوه.

وكذلك قال في سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:١٥] ، فهذا تفسير الإيمان، وأشباه ذلك كثير، يذكر الله فيها الإيمان، ويذكر أن الأعمال داخلة فيه، فمثل هذا يبين الإيمان الحقيقي، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلخ، أي: هؤلاء هم المؤمنون، ويقول بعدها: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:٤] .

إذاً: هذا معنى من المعاني يكون فيه الإيمان مستقلاً غير معطوف على شيء.

أما إذا عطفت عليه بعض الأعمال فذكر الشارح أن العطف له عدة حالات، فتارة يقتضي العطف التغاير، أي: أن الثاني غير الأول، وهذا هو الكثير فيما إذا عطف بعضها على بعض، مثل قوله: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة:٢٧٧] ، فإن الزكاة غير الصلاة، فهي عطفت عليها للمغايرة.

كذلك من أنواع العطف: العطف لأجل التنويع، مثل قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١] ، هل هناك فرق بين الخلق والجعل في هذه الآية؟ لا، فالعطف هنا للتنويع لا للتغاير.

كذلك من أنواع العطف: أن الشيء قد يعطف على بعضه، فيذكر مجملاً، ثم يذكر بعض التفصيل فيه، ومن الآيات التي في هذا -وهي كثيرة- قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:٩٨] فـ (جبريل وميكال) داخلان في الملائكة، فلماذا عطفا؟ للتنويع، أو لبيان السبب.

ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:٧] من النبيين كلهم، {وَمِنْكَ} [الأحزاب:٧] أليس محمد صلى الله عليه وسلم (من النبيين؟!) {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:٧] لم خص هؤلاء؟ هذا عطف بيان، وليس عطف تنويع.

ومن العطف -أيضاً-: الآية التي ذكرت في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:٤٨] الشرعة والمنهاج واحد، فالعطف هنا للترادف، وذكر -أيضاً- قول الشاعر: فألفى قولها كذباً وميناً.

الكذب والمين واحد، فالعطف هنا عطف بيان أو عطف إيضاح.

إذاً: فقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:٢٢٧] العطف هنا عطف بيان، لا أنه عطف مغايرة، فبذلك يعرف أنه ليس في هذه الآيات ما يدل على أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان.