للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان]

قال الشارح رحمه الله: [وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق؛ للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود.

وفي المسند عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب) ، وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان، ويؤيده قوله في حديث سؤالات جبريل في معنى الإسلام والإيمان، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم دينكم) ، فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة؛ لكن هو درجات ثلاث: فمسلم، ثم مؤمن، ثم محسن.

والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعاً، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والإسلام، لا أن الإحسان يكون مجرداً عن الإيمان، هذا محال، وهذا كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢] ، والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه فإنه معرض للوعيد، وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرض للوعيد.

وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين، وهذا كالرسالة والنبوة، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها، فكل رسول نبي، ولا ينعكس] .

هذا كلام يتعلق بالإسلام والإيمان والإحسان، فإنه صلى الله عليه وسلم لما سئل في حديث وفد عبد القيس فسر الإيمان بالأعمال والأقوال؛ لأنه ما أمرهم إلا بالإيمان، ولكن في حديث جبريل المشهور سئل عن الإسلام والإيمان والإحسان، ففسر كل واحد بتفسير، ولكن الثاني لابد أنه داخل في الأول، والثالث لابد أنه مستلزم للأولين قبله، ففسر الإيمان بالأعمال الباطنة، والإسلام فسره بالأركان الخمسة: بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج؛ لأن هذه يظهر من صاحبها إذعان.

وأصل الإسلام: هو الإذعان والانقياد، ومنه قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:٨٣] يعني: أذعنوا وانقادوا واستسلموا، غير مستعصين ولا متشردين، قويهم وضعيفهم، حيوانهم وإنسانهم، مؤمنهم وكافرهم كلهم أذعنوا، فالإسلام في الأصل: هو الإذعان، والأركان الخمسة دليل واضح على أنهم قد أعلنوا دخولهم في الإسلام، فمن رأيناه يتلفظ بالشهادتين ويحافظ على الصلوات، ويخرج زكاة ماله، ويصوم معنا، ويحج معنا؛ حكمنا بأنه مسلم، ويدخل مع المسلمين، ويدين لله تعالى ظاهراً، وإن لم نفتش ما في قلبه، فنعامله معاملة المسلمين، ولا نتكلف البحث عن باطنه ما دام أنه يفعل هذه الأعمال الظاهرة.

هذه تسمى المرتبة الأولى، وهي المرتبة الواسعة.

المرتبة الثانية: الإيمان، وفسره هاهنا بالعقيدة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر، الإيمان بهذه الستة يعني: الاعتقاد بصحتها، والاعتقاد بأحقيتها.

الإيمان بأن الله هو رب الأرباب وإله العالمين، والمعبود وحده المستحق لذلك دون ما سواه.

والإيمان بالملائكة لأنهم رسل من خلق الله مسخرون لعبادته.

والإيمان بالكتب بأنها كلام الله وفيها شرعه.

والإيمان بالرسل بأنهم رسل ووسائط بين الله وبين عباده.

والإيمان باليوم الآخر بالتصديق بالبعث بعد الموت وبالجزاء الذي فيه.

والإيمان بقدرة الله وبما قدره وقضاه على عباده.

هذه أمور عقدية، ومعلوم أنها إذا صحت ورسخت في القلب فلابد أن تظهر آثارها على البدن، فلابد أن ينطق بما يعتقد، ولابد أن يفعل ما يقول، ولابد أن يظهر عليه الفعل والترك الذي هو من آثار هذه العقيدة، فلأجل ذلك يقولون: لابد مع الستة من الخمسة، أي: أن الستة التي هي العقيدة وهي أركان الإيمان، لا تنفع إلا إذا كانت معها الخمسة، فمن قال: أنا آمنت بالله، وآمنت بكتبه، وبرسله، وبملائكته، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر، ثم رأيناه لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يعبد الله وحده، بل يجعل معه آلهة أخرى؛ قلنا: كذبت، لو كنت صادقاً في إيمانك ويقينك لما خالفت ذلك بأعمالك، فالأعمال التي نراها ظاهرة هي في الحقيقة ترجمة لما تقوله ولما تعتقده.

فإذاً: لابد مع أركان الإيمان من أركان الإسلام؛ حتى يكون الإيمان صحيحاً.

كذلك يقال في الإحسان، فسره بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .

قسم العلماء هذا التفسير إلى قسمين؛ الأول: عين المشاهدة، والثاني: عين المراقبة.

عين المشاهدة: أن تعبد الله كأنك تراه أي: تشاهده.

وعين المراقبة: أن تستحضر أنه يراك، أي: يراقبك.

فمن استحضر أنه يرى ربه اجتهد في الدعاء، واجتهد في العبادة وحسنها وكملها، ومن لم يصل يقينه وقلبه إلى هذا الاستحضار، فإنه يستحضر أن ربه مطلع عليه يعلم نبرات لسانه وفلتاته، ويعلم حديث قلبه وما توسوس به نفسه؛ فيكون من آثار هذا الإيمان أن يحسن العمل إذا استحضر أنه بمرأى وبمسمع من ربه، وأنه لا تخفى عليه منه خافية، وأن الله مطلع عليه، ويكون ذلك حاملاً له على إتقان العمل وإحسانه، فإنه -ولله المثل الأعلى- لو كان إنسان موظفاً تحت إدارة قوية المراقبة، تجعل هناك من يراقب هؤلاء الموظفين دائماً، ويشددون عليهم في الحضور وفي العمل، وقد يراقبونهم وهم لا يشعرون، ولا يبصرونهم، فلا شك أن الموظفين يجدون في العمل ويجتهدون فيه؛ مخافة أن يبعدوا منه، أو يحرموا من استحقاقهم.

أما إذا كانوا مهملين، لا ينظر إليهم رئيسهم، ولا يفتش عليهم، ولا يراقبهم، وليس هناك في قلوبهم دوافع الإيمان، ولا مخافة من الله، ولا أمانة؛ فإنهم يهملون الأعمال، ويقطعون وقتهم في اللهو واللعب، وفي القيل والقال، ولا يخلصون في العمل، ولا يجدون فيه.

فهذا مثل محسوس يشاهد عياناً، فنقول: كذلك الإنسان إذا كان يعمل وهو يستحضر أن الله يراه حرص على إتقان العمل، وإذا غاب عنه هذا الاستحضار فإنه يتساهل تساهلاً كثيراً في عمله.