للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشبه الواردة عن الحنفية لإخراج الأعمال عن الإيمان ليست منقولة عن الإمام أبي حنيفة]

هذه الحجج التي أوردها الشارح على أنها أدلة للحنفية في التفريق بين الإسلام والإيمان، ويجعلون الإيمان مجرد التصديق، ويجعلون أعمال الإسلام ليست داخلة في الإيمان؛ يقول الشارح: إن هذه الأدلة ضعيفة، وإنها لا يمكن أن تصدر من أبي حنيفة مع جلالته ومع معرفته ومع قوة فهمه، لكونها منهارة ضعيفة.

واستدل على أن أبا حنيفة متى احتج عليه بالحديث توقف عن رده، كما احتج عليه حماد بن زيد -وهو من علماء الحديث- في التفرقة بين المسلمين والتفاوت بينهم، بقوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (ما أفضل الإسلام؟ فقال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله) ، فجعل الإيمان زائداً عن مسمى الإسلام، فدل على أن المسلمين يتفاوتون، فإذا كان المسلم ممن تمكن الإسلام في قلبه وصل إلى مرتبة الإيمان، وهي: قوة العقيدة مع الانبعاث على العمل، فـ أبو حنيفة لما احتج عليه بهذا الحديث الذي فيه تفاضل أهل الإسلام، وأنه صلى الله عليه وسلم جعلهم متفاضلين، وجعل أفضل أعمال الإسلام هو الإيمان؛ أقر ذلك أبو حنيفة ولم يرد الحديث، مع أن أصحابه يتشوفون إلى رد ذلك الدليل، ولكنه سلم له، فيستدل على أن هذه الاحتجاجات الضعيفة ليست من أبي حنيفة، وإنما هي من أصحابه الذين يتعصبون لمذهبه.

وهذه الآية يحتجون بها على تغاير الإسلام والإيمان، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:٣٥-٣٦] ، كأنه أخبر بأنه أخرج من كان فيها من المؤمنين، فلم يجد فيها إلا بيتاً واحداً من المسلمين، وهم لوط وأهل بيته، فلوط عليه السلام وأهل بيته لا شك أنهم جمعوا بين الوصفين: بين الإيمان والإسلام، ولهذا استثنى الله امرأته وقال: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف:٨٣] ، {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:١٧١] .

إذاً: لا منافاة بين هذا الدليل وتلك الأدلة، بل هو دليل واضح على أن الإسلام يستلزم الإيمان، فلا يتم الإيمان إلا بأركان الإسلام، ولا يتم الإسلام إلا بأركان الإيمان، ومن أتى بواحد منهما دون الآخر لم يقبل منه، فمن أتى بالأعمال الظاهرة، ولم تكن عن يقين وعن عقيدة وعن تصديق بقلبه لم يكن مؤمناً، ولم ينفعه الإسلام، ومن اعتقد اعتقاداً جازماً، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وصدق بخبر الله، وصدق بالبعث بعد الموت، ثم لم يعمل ولم يصلِ ولم يصم ولم يحج، ولم يؤد زكاة ماله، ولم يأت بواجباته، ولم يحرم الحرام ولم يحل الحلال؛ فليس بمؤمن، ولو ادعى أنه مطمئن قلبه بالإيمان، هذا مقتضى هذه الآيات.

هذه هي الشبه التي يدلي بها الحنفية، ويدعون أنهم ينصرون بذلك مذهب أبي حنيفة في أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وأن الإسلام مغاير للإيمان، حيث يذهبون إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، ويخرجون الأعمال من مسمى الإيمان.

والصحيح مذهب الجمهور: أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن هذه الشبهات التي يستدلون بها، ويدعون أنها أدلة لـ أبي حنيفة لم تكن منقولة عن أبي حنيفة نفسه، فهو رحمه الله من أجلاء السلف ومن أجلاء التابعين، ولم يكن ليدلي بهذه الشبهات، ولا يشكك بها في هذه العقيدة، فإن عقيدته سليمة صحيحة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن لما اشتهر عن الحنفية أنهم يخرجون الأعمال من مسمى الإيمان أخذوا يجمعون ما يستطيعونه من الشبهات وما يسمونه بالأدلة، فأوردوها كنصرة لمذهبهم، والصحيح: أنه لا دلالة فيها كما ذكرنا، بل الأدلة واضحة في أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وثمرة من ثمراته.